هناك حكمة عميقة تقول «من ليس له ماض، ليس له حاضر ولا مستقبل» وهى لم تأت من فراغ، إنما هى استخلاص لفهم عميق لطبيعة جريان الأحداث الآنية، والتى ستكون فيما بعد ماضيا، ويترتب على هاتين الطبقتين المتعاقبتين المشحونتين بالأفكار والتصرفات والتفاعلات تحديد ما سيقع، أو على الأقل كشف جانب منه، أو بناء المؤشرات الدالة عليه.
وينظر البعض إلى التاريخ على أنه شكل آخر من أشكال الأدب التخيلى Fiction وهو تصور قديم قدم التاريخ نفسه، بل إن هناك مجتمعات لا تفرق بين التاريخ والخيال، ولا يخلو هذا التصور من منطق، فى الوقت ذاته، هناك ارتباط كبير بين التاريخ والسلطة، باعتبارها جوهر العملية السياسية، فالصراع على السلطة يبدو عملية تاريخية محددة بظروف مكانية وزمنية وبنية اجتماعية ومرحلة حضارية معينة، وفعل السلطة نفسه عملية تاريخية، تتحدد بمعطيات الماضى الحى، وتحدد بدورها، جزئيا أو كليا، مسيرة الحاضر نحو المستقبل.
ولهذا يقر الجغرافى والمفكر المصرى الشهير جمال حمدان بأن البعد التاريخى يعد مدخلا مهما إلى أى دراسة عملية جادة وعميقة لواقعنا السياسى، وتصوراتنا الاستراتيجية، ويقول: «بغير هذا تبدو الحقائق مقتلعة، والتعميمات، ربما، مبتسرة مفتعلة، وتخرج الصورة كلها ولها مسطح، ولكن ليس لها عمق».
والمشكلة تقوم حين نفرط فى الحديث عن الماضى، ويحضر التاريخ دوما ككابوس مرعب، ليس لاستلهام الحكمة منه أو التبصر به إنما العيش فيه، والبكاء الدائم على اللبن المسكوب. والإلمام بما قد مضى لا يعنى امتلاك الإنسان بعض القصص والحكايات التى تسليه فى أوقات فراغه، أو تجعله قادرا على أن يتباهى أمام أصدقائه بما لديه من معلومات عن الذين رحلوا، إنما هو وسيلة مهمة بالنسبة له لقياس ما يجرى أمام عينيه الآن أو ما يتوقع حدوثه فى المستقبل على ما حدث لآخرين، كى يحاول أن يتفادى الأخطاء التى سقطوا فيها، ويستفيد من الصواب الذى سلكوه.
فرغم اختلاف السياق، أو الزمان والمكان، فإن بعض الممارسات الإنسانية تتشابه بل قد تتطابق حتى لو فصلت بين الواحدة والأخرى قرون من الزمن أو آلاف من الأميال. ولذا يقول البعض إن «التاريخ يعيد نفسه»، وهو قول فيه بعض من الصواب، لكن صوابه يزيد كلما تعلق الأمر بظاهرة السلطة وما تنتجه من أقوال وأفعال.
وحتى لو سلمنا بمقولة «التاريخ اختيار» التى يستريح لها بعض المؤرخين فإن هذا الاختيار على ما فيه من تحيز وانتقاء ينطوى فى باطنه على عظات وعبر، تزداد جدواها إن حررنا التاريخ، وفق منهج علمى صارم، من بعض تحيزات كاتبيه، التى تنبنى على اعتبارات عدة، وتمكنا من رسم ملامح السياق العام الذى وقعت فيه الحوادث والوقائع، أو اجتهدنا فى الحصول على اختيارات بديلة لمؤرخين آخرين.
ومع هذا، فهناك من بين عوام الناس من يسخر من علماء التاريخ، وهم يقولون إن فى استطاعتنا أن نخرج من الماضى بكثير من العظات والدروس، ويصرخ فى وجوههم: «التاريخ لا يعيد نفسه». وهنا يرد عليهم الأنثربولوجى الكبير ويليام هاولز فى كتابه «ما وراء التاريخ» ويصيح فى وجوههم: «هذا قول يماثل فى الغباء والسخف الزعم القائل بأن الصاعقة لا تصيب نفس المكان مرتين».
وحتى يمكن الخروج من هذه المعضلة التى تنطوى على تناقض بين من يعولون على التاريخ فى فهم ما سيأتى ومن يستهينون بهذا علينا أن نقوم بمزج «الحكمة الكلية للتاريخ» مع ما يجود به العقل والفؤاد من قدرة على التبصر يجعل باستطاعتنا التنبؤ بما سيجرى، ولذا يقول جان ج. تايلور: «من المؤكد أن المستقبل يخبئ للإنسان إنجازات أخاذة، ولكن أهمها سيتعلق بتلك الميزة الخاصة التى يمتلكها، ألا وهى تدوين خبراته حتى يستفيد منها الآخرون. فهذه القدرة الفريدة تسمى الترميز Symbolization، وبها تكون الكلمات المكتوبة رموزا للأفكار.. وبالمزج بينها وبين الخيال يستطيع الإنسان أن يخطط للمستقبل عن طريق إدراكه الواقعى لنتائج حدث معين مختار من بين عدد من البدائل والاحتمالات».
ويتفق دليل بيرنز مع الرأى السابق، إذ يقول فى كتابه المهم «المثل السياسية»: إن «التاريخ هو تفسير للكيفية التى نفعل بها ما نحن فاعلون. واهتمامنا بما حدث يرجع أكثر ما يرجع إلى رغبتنا فى فهم ما هو حادث الآن، وهذه الرغبة بدورها نابعة إلى حد كبير من حاجتنا إلى التأثير فيما سوف يحدث فى المستقبل، وعلى ذلك يصبح التاريخ عديم الجدوى ما لم يمدنا بجانب من المعرفة له قيمة عملية، فمهمته أن يبين لنا الوسيلة التى تمكننا من أن نجعل من الحاضر مستقبلا أفضل، وذلك بفهم الطريقة التى أصبح بها الماضى حاضرا.. ويجب أن ننظر إلى الماضى كأنه كان ذات يوم مستقبلا، وأن نفكر فيما حدث من تغير كما لو كان يتحرك أمام نظرنا لا كشىء ذهب وانقضى... ونحن إذ نتلفت إلى الوراء فإنما نفعل ذلك كى نتجه بأبصارنا إلى الأمام».
ولا يجب أن يقتصر الأمر على تاريخ البشر وما ينتجونه من ظواهر إنسانية متعددة، إنما من الضرورى أن يمتد إلى تاريخ الأفكار. فالمعرفة ذات طابع تراكمى، وسيكون من الحماقة أن نبدأ من الصفر فى التعامل مع أى مشكلة نريد حلها، أو قضية نسعى إلى الإلمام بمختلف جوانبها، بل من الضرورى أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ونضع لبنة جديدة فوق كل ما تركه لنا أولئك الذين سبقونا على دربى العلم والخبرة الإنسانية.
وعلاوة على تاريخ الفكر والفعل أو السلوك الإنسانى وما ينتجه من وقائع وأحداث وظواهر وتاريخ الأفكار، يجب أيضا استقراء تاريخ الخبرة الشخصية والنفسية عبر «الاستبطان»، الذى يزاوج فيه الإنسان بين التجريب والحدس، الذى طالما لعب دورا مهما فى علم الاجتماع الكلاسيكى، فى تحصيل معرفة بديهية للأشياء القائمة أو تخيل الخطوة القادمة، سواء بالبحث داخل النفس والتحقق من الأمور التى يحملها الذهن ويحتفظ بها، أو بتفحص بعض الخبرات الذاتية.
فى كل هذه الأنواع والأصناف يلهمنا التاريخ برؤية المستقبل لأنه ينطوى فى حد ذاته على نوع من التفكير المبصر، لاسيما بعد مساعى المؤرخين ليضفوا على الوعى التاريخى ما أضفاه كانط على الوعى العلمى من قوانين عقلية بحتة بمعزل عن حقائق الحس. ولذا بات من الممكن أن نتحدث عن «التفكير التاريخى» الذى يشبه الإدراك الحسى فى ناحية من النواحى لأن كلا منهما يختص بالنظر فى الشىء الجزئى. ويبدو هنا التاريخ شبيها بالعلم إذ المعرفة فى كل منهما تقوم على الاستدلال أو البرهنة العلمية، وإن اختلفا فى أن ما يناقشه المؤرخ ليس من قبيل المجردات، ولكن من قبيل الموجودات المادية، والعناصر الجوهرية فى التاريخ هى الذاكرة والحجة فى الموضوع، والرواة الثقات.
كما يلهمنا التاريخ بالقدرة على التخيل السياسى لأن التاريخ فى جانب منه قائم على الخيال، وهو ما يسميه علماء التاريخ «الخيال التاريخى»، والذى لا يعتمد على التعسف فى تخيل الأحداث التفصيلية، لكن على إدماج ما يتوقعه هو بشكل علمى منضبط من تفاصيل لم ترد فى إفادات الرواة الثقات.
ويضرب عالم التاريخ ر. ج. كولنجوود، وهو واحد من أهم دارسى هذا الحقل المعرفى فى العالم بأسره، مثلا على هذا بقوله: «لو أننا نظرنا إلى البحر، ورأينا مركبا ثم عدنا بعد خمس دقائق، فنظرنا مرة ثانية ووجدنا المركب فى مكان آخر غير الأول، لكان علينا أن نتبين حينئذ أن المركب مر عبر مساحات مائية فى أثناء سيره بين النقطتين، فى الوقت الذى لم نكن فيه نتتبع سيره. ولنا فى هذا مثل على التفكير التاريخى، ونحن بنفس هذا الأسلوب، نجد أنفسنا مضطرين لأن نتصور أن قيصر قد سافر من روما إلى الغال، حيث يقال لنا إنه فى هذين المكانين المختلفين فى هذه الأوقات المتتالية».
وبالتالى يقوم الخيال التاريخى على الاستدلال العقلى البحت، وهو يملأ الفراغات التى يتركها الرواة الثقات، بما يجعل القصص أو الوصف التاريخى حلقة متماسكة متصلة. والمؤرخ الكامل يجب أن يكون على درجة من الخيال الجبار الذى لا يضفى على قصصه قدرا من التأثير والجمال فحسب، إنما يعينه على تبيئة الوقائع التاريخية المحددة، وتكييفها مع السياق العام الذى لم يسجله الرواة، وبذا يبدو الخيال هو الملكة العمياء التى لا غنى عنها، لأنه ليس بوسعنا أن ندرك العالم بدونه، ولذا فهو ضرورى للمؤرخ، وهو إن كان أدنى من الحقيقة فهو أبعد عن الخرافة، وهو فى كل الأحوال ليس نوعا من الهذيان لا ضابط له، أو مجرد جنوح عن عالم الحقائق، بل يخضع لتفكير ممنهج، لأن ما يتخيله المؤرخ، وعلى النقيض من خيال الروائى مثلا، ينبغى أن يكون فى حدود الزمان والمكان، وخاليا من التناقض، أو متسقا، وذا صلة وثيقة بالمادة التاريخية المسنودة إلى مصادر.