في نقد خطاب الثورة والدولة

أحمد الدريني الأربعاء 27-04-2016 21:15

واحد من أكبر مآزق الثورة، هو خطابها.

لم نبرح بعد هذا المربع المليء بالشعور بالزهو والطهر والنقاء والأفضلية في مقابل أنصار «الآخر».. الذين يرقصون على أبواب لجان الانتخابات وفي الاستفتاءات، بأشكالهم الـ«مش ولابد».

نحن من نقدم الشهداء والمعتقلين، نحن من نهدر سني عمرنا الجميلة بين القضبان، بينما يرزحون هم في جهلهم وفي ضمائرهم المعطوبة التي يبيعونها لأول 50 جنيهًا تلوح في الأفق، ولأول كيس زيت أو سكر.

في كل «موجة»، تتكرر المفردات والمشاهد.

من الدعوة إلى «المواجهة والنزول» إلى متابعة الاشتباكات والاعتقالات إلى إلقاء اللوم على «شعب الجنرال» والسيدة التي تضع البيادة فوق رأسها.

هكذا في دوائر عدمية تكرر نفسها بلا فارق يذكر.

مستغرقون في زهونا بذواتنا وفي تحقيرنا لبني جلدتنا، دون أن نقدم خطة حقيقية لتنفيذ ما نريد.

السيدة التي خرجت بعلم المملكة، لاشك قصمت شيئا من كبريائنا جميعًا بفعلتها السفيهة، لكن تصرفها ليس وليد قناعة تامة التبلور مكتملة الأركان كي نحاسبها عليها بكل هذه الغلظة، متناسين سنوات الجهل العضوض التي شهدها وادينا؛ فكان نتاجها ألوف «الزومبي» الذين نعايرهم بأنهم «شعب الزومبيس» الراقص على أبواب اللجان والمتحرش في وضح النهار والـ -هيهيهييء- متدين بطبعه.

الثورة إلى الآن لا تعرف ما تريد.. هي تعرف ما لاتريد.

خطابها يجيد فحص ثغرات خطاب أنظمة الحكم المتعاقبة من المجلس العسكري للإخوان للرئيس السابق عدلي منصور للرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، لكن الثورة لم تقدم خطابها هي إلى الآن.

كل ما تريده معرف بالسلب لا بالإيجاب: لا للتعذيب.. لا لتقييد الحرية.. لا لتقييد ميزانية التعليم والصحة في مقابل الإنفاق غير المفهوم على التسليح.

في معسكر الثورة أنت تعرف كل ما «لا تريد أن تراه».. لكن ما «تريد أن تراه» مجرد موضوعات تعبير وطنطنات بلاغية (وطن حر- نظام تعليمي حديث- رعاية صحية شاملة- عدالة اجتماعية) إلى آخر ما يمكن أن يكتبه طالب في الصف الثالث الإعدادي.

الصياغة المحكمة عما نريده لبلادنا أمرٌ ليس واردًا في أدبيات الثورة. وحتى الجهد البحثي المتناثر من شباب الباحثين والأكاديميين في مجالات الاقتصاد والقانون والسياسة والعدالة الانتقالية، لم يتعد –للأسف- كونه اجتهادات فردية منثورة بلا ناظم أو ضابط يسلكها جميعا في رؤية «ثورة» لبلدها بعد 5 سنوات من الجراح والدماء والانكسارات والتقلب بين أنظمة الحكم.

الثورة خاضعة لمزايدات أقصى يسارها برعونته ولا عقلانيته وفي رغبته المتأججة في الاشتباك لأجل إعادة خلق «اللحظة الثورية» دون النظر إلى فن توظيف اللحظة أو عواقب التوظيف، في رغبة سيزيفية دائمة الانعقاد.

المهم أن نبدو أطهارًا وأن يبدو «النظام» – أي نظام- قمعيا رجعيا مستبدا. وأن نلتقط الصور المفجعة والصور ذات الرمزية البالغة التي تظهر شجاعة «الأولاد» في مقابل مدرعات ورصاص النظام.

المهم هو استنزاف الأنظمة ولو على المدى البعيد، والأهم هو اللايكس والشيرز.

هكذا بتجريد غير مخل بالمعنى.

وإن توشج كل هذا العك، شيء من نبل وشيء من النوايا الحسنة لكثير من الأفراد دون عواقب فعلهم كجماعة.

(2)

النظام أمره عجيب.

ليس لديه خطاب أصلا لتقلبه من جوانبه وتمرره على عقلك.

حالة ارتجالية يومية لا تعرف لها بوصلة ولا منطقًا ولا قصدًا.

مساكين أولئك الذين يحاولون نفاقه (مشيها نفاقه)، فكيف تنافق ما لا تفهم ولا تتوقع نواياه ولا تستوعب سياساته ولا تضمن ردود أفعاله؟

النظام لا يقدم خطابًا من أي نوع على الإطلاق. مجموعة من الدعايا الروتينية لأعمال الحفر والإنشاءات، مشفوعة ببعض الصياغات التي لا تعكس رؤية أو توجهًا، كأننا نعيش كل يوم بيومه!

ليس لدى النظام حجة تعضد رؤيته أو تدحض رؤى معارضيه، وهو حتى لا يهتم بالمنازلة الفكرية أو التعامل السياسي مع الأمر الواقع. النظام –حرفيًّا- لا يفعل شيئًا على الإطلاق.

أحيانًا تراه قريبًا من يمينه المتطرف الشتام الساخر من الثورة والمستهزئ بشبابها بألفاظ فجة وإيماءات سخيفة، وأحيانًا شديدة الندرة تراه على تخوم أصدقائه من وجوه معدودة مازال لديها بعض احترام في النظر العام.

وفي أحيان أخرى يبدو على وشك تبني أساطير أسر قائد الأسطول السادس وتصديق رسالة ضابط المخابرات المتقاعد إلى الرئيس السيسي على قناة سارومان.

وباقي الوقت لا تراه أصلا.

كأنه لا يعرف ما يريد. حتى في قمعه، هو يمارس شيئًا ما غير مدروس وغير منهجي، قمع ارتجالي عشوائي ليس له خطة أو نية.

بعض المقبوض عليهم من الشوارع يطلق سراحهم والبعض الآخر يمدد سجنه، فلا هو الذي خرج بأقل الخسائر من المعركة ولا هو الذي سحق معارضيه، ولا هو الذي أوصل رسالته.

كان في البداية موصومًا أنه امتداد لنظام مبارك، وبعد عامين من الحكم أصبحت مقارنته بنظام مبارك شرفًا يستكثره عليه أرق معارضيه، ومدحًا يسعى إلى إثباته معتدلو معسكره!

هو الآخر نظام يعرف ما لايريد.. لكنه على الأرجح لا يعرف ماذا يريد.

هو لايريد اضطرابات ولا تظاهرات ولا إعلاما ولا وسائل تواصل اجتماعي توثق عوراته وتعيد إنتاج السخط اليومي ضده.

هو لا يريد نشطاء ولا فاعلين أو مؤثرين أو أحزابا.

هو الآخر –حرفيًا- يعرف كل ما لا يريد ويحلم باليوم الذي تختفي فيه قائمة مؤرقيه من الوجود. لكنها لو اختفت، سيضطرب ويحار في الذي يريده من بعد ذلك!

(3)

هذا بلد منكوب بنظامه ومعارضته.

وليس من سبيل إلا أن يسارع أحد الطرفين إلى معرفة ما يريد، ويطرح «رؤية» حقيقية مقنعة وموضوعية.

الثورة؟ كبرياؤها ستعرقلها كثيرًا، لكنها أقرب للحل.

الدولة؟ ستفكر في الحل حين يرقص أفراس النهر الباليه في أوبرا القاهرة.