بالأمس كان الإمام حسن الصوت يقرأ هذه الآيات البينات من سورة هود.
«وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
شعرت لحظتها بالتهيب الشديد وأنا أسمع هذه الآية. الحكم النهائى بإغلاق باب التوبة. حكم غير قابل للاستئناف أو النقض. ترى ما الذى شعر به نوح فى هذا الموقف الرهيب؟ أصعب ما فى الأمر أن المَعنيين بالأمر كانوا لا يعلمون. يمارسون لهوهم ويستمرون فى غيّهم، ولا يدرون أن حكما إلهيا قد تم إصداره بالعذاب المقيم.
■ ■ ■ ■
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
يا للقرآن العظيم ويا لسحر بيانه! حاول أن تتخيل معى أن تصنع شيئا على عين الله. وبوحى منه سبحانه وتعالى. فانظر إلى هذه العناية وهذا الدلال. لكن فى الوقت نفسه هناك صرامة (ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا. إنهم مُغرقون).
إذا أغلق باب التوبة، إذا استنفد العبد فرصه الكثيرة، إذا أصدر الرب حكمه النهائى فلا مجال للشفاعة، حتى من نبى كريم. بعد قليل سوف ينسى نوح هذا الأمر الإلهى حينما يهلك ابنه غرقا! فيتخيل أن نبوته قد تنقذ ابنه!
■ ■ ■ ■
«وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ. قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ».
يستخدم القرآن الفعل المضارع (ويصنع) وكأنك تشاهد نوحا بعينيك وهو ينشر الخشب ويثبت المسامير. لا بد أن ذلك بدا مضحكا جدا لقومه. ضع نفسك مكانهم. فى عمق الصحراء، حيث لا بحار ولا أنهار، يجدون ذلك الرجل يفعل أشياء عجيبة. ماذا ستفعل بالسفينة يا نوح؟ هل ستتزحلق بها على الرمال؟ يسمع نوح سخرية العابثين الذين لا يعلمون أن أمر إعدامهم قد وُقّع بالفعل. فأى أحزان عميقة تملكت هذا النبى الرحيم!
■ ■ ■ ■
«حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ».
كانت هناك علامة ينتظرها نوح. حين يفيض الفرن بالماء يعرف أن الطوفان قادم. وينبغى عليهم الصعود إلى السفينة. يستعجل البشر العدالة الإلهية لأنهم فانون ومتعجلون. لكن حين يأتى الأمر الإلهى يعرفون أن وعد الله آت لا محالة.
■ ■ ■ ■
« وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ. قَالَ سَآوِى إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ».
الآن تحولت الصحراء إلى بحر لُجى تتلاطم أمواجه. الآن يعلم الكافرون عاقبة كفرهم وهم يصارعون الموج. تتحرك عاطفة الأبوة فى قلب نوح حين يشاهد ابنه يغرق. أصعب موقف يجابهه الأب أن يشهد هلاك ابنه كافرا. بعد قليل سوف يرفع الأب شفاعته إلى الله، فيجيبه الله محذرا أن يسأله ما لا يعلم، وبسرعة يؤوب العبد إلى مقام التسليم.
الله الذى خلقنا هو انتماؤنا الأول. الله قبل الأب والابن والزوج والأخ والصديق. الله هو نسبنا الحقيقى الذى يعلو فوق كل نسب. الله هو الله وكفى، ما لنا أحد سواه.