هل باتت أجهزة نظام الرئيس- دون سواها- سببًا للثوران عليه، والسخط منه، وكلما هدأ الشارع غضب النظام مرتكبًا فعلة ما، أو متخذًا قرارًا خاطئًا.. يستدعي ثورانًا بركانيًا من ذلك الغضب الشعبوي الخامد، والمنهك من ويلات ثورتين متتاليتين.
يقول العرب قديمًا: البعرة تدلُ على البعير، وفي صعيدنا: «مفيش نار من غير وقيد»- والوقيد لأهل الحضر: هو مخلفات الشاة وأبْعار الماعز- والمعنى أنه لا تأتي الأزمة من فراغ، ولا يقع الارتباك من عدم.
والمتابع لقرارات، وتصرفات أجهزة الدولة المختلفة يكتشف انفصامًا تامًا في الرؤية وانفصالًا بينًا في التوجه ينعكس على متخذِي القرار كلُ في جهازه، فتبدو الدولة أمامك كسفينةِ يقودها ألف ربّان، لا وجهة واضحة، ولا قرار محدد، ولا كبير يُسأل.. فالكل هنا كبير!
يطل الرئيس بين الفنية والأخرى يطبطب يمينًا ويسارًا، ويطمئن غربًا وشرقًا، ويقسم على احترام القانون والدستور، وحفظ الحقوق والحريات، وما لبث أن يفرغ من حديثه حتى تسعى أجهزته إفسادًا، وتهلك الوعد، وتثير الأرض فزعًا.
كان سيئ الذكر- المعزول وإخوانه- يتحججون على ارتباك حكمهم بانتشار أبناء الدولة العميقة- الغويطة في شتى أركانها، ورغم وجاهة الطرح إلا أنه لم يخل على المصريين.
لكن هذا القول أعلاه ما عاد يناسب نظام السيسي- ابن المؤسسة العسكرية بكل عمقها- حتى يكون مبررًا لتضارب إدارته، وتصرفات أجهزته المنفردة، وقرارات دولته المتعارضة.
مؤسسة الرئاسة عندما خرجت لتنفي- في سابقة لم تحدث من قبل- ما جاء بصحيفة خاصة على لسان مصدرٍ مطلع مفاده أن الرئيس غاضب من تظاهرات الأرض، وأنه عقد اجتماعًا أمنيًا لوقف هذه الظاهرة، مع حلول ليل اليوم ذاته، برهنت جهة سيادية أخرى على صدق الصحيفة، وأعطت دليلاً للمتشكك في روايتها حين شنت حملة اعتقالات عشوائية استهدفت الداعين لتلك التظاهرات!
تصرف الجهة السيادية المنفرد بمعزل عن الرئاسة، أبرز ظاهرة تضارب صناعة القرار داخل الدولة.. ولهذا تفسيرين، الأول معتقد يرمي إلى أن تلاعبًا وصراعًا تدور رحاه بين أجنحة بعينها من أهل الحل والعقد، ومنَ بيدهم عقدة النكاح في النظام.
هذا الرأي يدعمه ويروج الآن له فصيلان- أحدهما ما سئم ترديده منذ كان يتنزل عليه الوحي بسماء رابعة، ويؤمهم النبي في خيامها، ويلمز إليه فصيلِ ثانِ من هؤلاء العائدين من المولد بلا حمص- لكن لم يثبت أحدهما للآن صحة قوله بدليل.
لكن صراع الأجنحة مردودُ عليه حتى وإن كانت دلائله ارتباكًا وتعارضًا في توجهات الأجهزة، بأن هذه سمة الإدارة في دولتنا من قديم الأزل، وبنظرة للتصرفات والقرارات المحلية والخارجية بمعزل عن الجانب الأمني تجد الأزمة ذاتها تطل برأسها من كل أركان الدولة.
ولهذا كله، فإن الحكم على فرضية صراع الأجنحة، لا يمكن أن يتم بمعزل وبغض الطرف عن ثقافة الإدارة المنعدمة في بلادنا، والتي تعاني من اللا نظام، وفرق السرعات والتقييمات.
وبالنظر لحال النظام الآن فهو أقرب إلى مجلس قروي يقرر رصف الشوارع، وما انفك حتى تفتكر شركة المياه توصيل خطوطها فتبدأ في تكسير ما تم رصفه، وما أن تفرغ الأخرى حتى يستيقظ مقاول الصرف الصحي ليتم عمله.. وهلم جرة من الرصف والتكسير، واتخاذ القرار وضده في نفس ذات اللحظة.
إذن القضية ليست صراع أجنحة بقدر ما هي حُسن واحتراف إدارة، وعلى الرئيس أن يعيد دمج وتوجيه أجهزته لتعمل في اتجاه واحد، وعلى هدفِ وحيدِ، وليعلم أن استمرار الوضع على النحو الذي ظهر مؤخرًا لن يحقق مرجوه.
فالقانون ورغم فيزيائيته، إلا أنه لكل فعلِ (أو قرار أو تصرف) رد فعلِ مساوِ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه.. فاحذر.