سُلالة «أهل الانغلاق»

أحمد الشهاوي السبت 23-04-2016 22:12

العارف يتكلم بلسانٍ واحدٍ، بينما الضعيف الجاهل المُكابر المُتشدِّد المُتشنِّج المُتزمِّت السَّادر فى أصوليته يتكلم بلسانين وأكثر، حيث لا قدوة حسنة لديه، ولا حُجَّة رشيدة يمتلكها يقدِّمها ساعة الحِجَاج والجدل، فهو- فقط- يبتغى السيطرة والهيمنة على كل ما تقع عليه يداه، يقمع الآخر الذى لا يشترك معه، أو ينتمى إلى جماعته، ومن هنا تأتى الكوارث، ويغلب التناقض على الخطاب الدينى، وتتضارب الفتاوى بين المشتغلين بالدين وما أكثرهم فى بلادنا.

وتجَّار الدين هؤلاء، ومن يريدهم ويؤيِّدهم، ليسوا جُماع المجتمع، بل هم أقليةٌ مستثاةٌ بإلا (أى مخالفة لحكم العقول والقلوب والأرحام والأرواح والنفوس)، بغيتهم القفز بأدوات القهر والتسلُّط على السلطة السياسية، والوثُوب بالتخطيط السرِّى الخفى للجلوس على كُرسى السلطان، ولذا لم أقر مرةً واحدةً فى حياتى إدراج هؤلاء وأولئك من تجَّار الدين فى سياق المجتمع الذى يريد أن ينهض ويتقدَّم، ويذهب نحو الحرية والتعدُّدية والحكم بالعدل والمساواة، لأن كلَّ شرعيةٍ يحصل عليها هؤلاء، هى موطئ قدمٍ لن يبرحوه، بل هو تقدمةٌ، ليمرَّ الجسد كله كى يسيطر ويُهيمن.

ويتخذ تُجَّار الدين المستبدون، على اختلاف توجهاتهم وما أكثرها، أى مشكلة طارئة أو عارضة، وقعت لفردٍ أو جماعةٍ أو جهةٍ قميص عثمان، لينقضُّوا، ويأكلوا اللحم بالباطل، وتثور أحقادهم، فيثوروا، ويثيروا الفتن، ويحرِّضوا على القتل والفتك والطعن، ويندفعوا إلى القتال، كأنَّهم يدافعُون عن الله- سبحانه وتعالى- الذى لا يحتاج دفاعًا بشريًّا من أحدٍ.

ومثلى لا يقتنع بترك الحبل سائبًا، ومُحاورة ومُؤاخاة من يسعى إلى إقامة سلطةٍ إسلاميةٍ، تمارس استبدادها وانتهازيتها على من لا يذعن إلى شروط دولتها، أو يطبِّق برنامجها الاجتماعى والدينى، لأن هؤلاء السَّاعين ما هم إلا مُتشدِّدون، يروْن غيرهم كفرةً وزنادقةً ومُهرطقين وخارجين على الإسلام الذى يتصورون أنهم- فقط- من يعرفونه، ويعملون بتعاليمه، لأنَّ المحاورة معهم تمنحهم شرعيةً، ومن ثم تشريع ممارساتهم الاستبدادية دينيًّا واجتماعيًّا، وكراهيتهم لكل مظاهر الحياة، وفى مقدمتها الفنون والآداب والعلوم الحديثة، إذْ هم فقط يُمثِّلون جُزءًا يسيرًا من المُجتمع، وليسوا هُم المُجتمع المُتعدِّد والمُختلف فى نسيجه الفكرى والدينى.

وهؤلاء من أصحاب العقُول والقلُوب المسدُودة ينظرون إلى الآخر من منظورٍ واحدٍ فقط، هو الهُوية الدينية، وعلى أساسها يتم التعامل، وغالبا ما يتم نفيه وإقصاؤه ونبذُه وتكفيره، لمجرَّد أنه مختلف عقائديًّا أومذهبيًّا.

وهؤلاء ينتمون إلى سُلالة «أهل الانغلاق» من القدامى والمُحدثين وما أكثرهم، وما أوسع انتشار كُتبهم، التى تحض على الفتنة وتكفير من ليس فى مركبهم.

هؤلاء الذين يستبعدُون أى علمٍ لم يأت به النبى محمد- عليه الصلاة والسلام- وما عداه، كما يذكر ابن تيمية (661-728هـ / 1263-1328م)- لا يستحق أن يُسمَّى عِلمًا، ومن ثم ينبغى استبعاد كل العلوم، مهما تكُن أهميتها.

وقول ابن تيمية ذاك، والذى يؤمن به – للأسف - عشرات الملايين من المسلمين حول العالم، ليس بعيدًا عن فتوى الشهرزورى «توفى فى الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق»، الذى ذكر أنَّ (الفلسفة أسُّ السَّفه والانحلال، ومادة الحيْرة والضَّلال، ومثار الزِيغ والزندقة، ومن تفلسف، عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين، ومن تلبس بها، قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: واستعمال الاصطلاحات المنطقية فى مباحث الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية - ولله الحمد - افتقار إلى المنطق أصلا، هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، فالواجب على السلطان أعزَّه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم)، ومن ثم ليس مُستغربًا أن نجد دولا عربية تمنع تدريس الفلسفة فى مدارسها وجامعاتها، وتقبض على أيِّ كتابٍ فلسفيٍّ، وتُرحِّل من على أراضيها من تشتبه أو تتيقَّن أنه من المشتغلين بتدريس الفلسفة، كان قد دخل أراضيها، ليدرِّس علومًا أخرى.

فقد صرنا فى زمنٍ لم نعد نرى فيه ذلك الشيخ الأزهرى الذى يعتزل ليقرأ، أو يختلى ليعرفَ ويتفقَّه، أو يتوحَّد مع ذاته، ليتثقَّف وينظُر، ذلك الشيخ الذى يُذكِّر بالشيُوخ المُفكِّرين أصحاب العقول الحُرَّة، والنفُوس الأبيَّة الذين تركوا كُتبًا مُؤثِّرة ومُؤسِّسة، صارت من العلامات والمُتُون والأمهات، خلال مائة عام مضت، مثل محمد عبده «وكان مُفتيًا للديار الإسلامية»، ومصطفى عبدالرازق «وكان شيخًا للأزهر مدة عامين 1945- 1947»، وعبدالحليم محمود «وكان شيخًا للأزهر مدة خمس سنوات 1973 – 1978»، وطه حُسين، وعلى عبدالرازق، وعبدالمتعال الصعيدى وسواهم.

لكنَّنا فى المقابل صرنا نرى الشيخ الإقطاعى (والإقطاعى لا يظهر إلا فى العصُور المُظلمة، لكنَّه فى وضع هذا الشيخ، الذى لم يكُن يومًا طبقة مُلاك الأراضى ولا من النبلاء، بل صار فى حوزته جماعةٌ من السُّخرة، تشتغل كأبواقٍ له، تُشبه العبيد فى الأزمنة السابقة ؛ تحصل من الشيخ على صكُوك غُفران، والذى هو أيضًا يُعطى صكُوك حرمانٍ، لمن يعترض على سلطته الدينية، حتى صار ذلك الشيخ مرضًا ينبغى الاستشفاء منه، يمكن أن نطلق عليه مرض الشيخ الإقطاعى، ومرادفه مرض الدين، والدين هنا بمفهوم الشيخ، وليس كما أنزله الله فى كتابه، أو جاء فى سنَّة نبيه محمد الصحيحة).

ذلك الشيخ الإقطاعى لم يعُد مشغُولا ببناء عقله، أو مهجُوسًا بالبحث والتقصِّى والسُّؤال، بل صار جُل وقته مُخصصًا، لمتابعة أرباح تجارته، التى جاءت نتيجة متاجرته اليومية بالدين، وشطارته فى التكسُّب، وصار كُل همِّه زيادة ما لديه، ورعاية ثروته، التى تتضخَّم يومًا إثر يومٍ، حيث الضخ الدائم فى حساباته.

مثل هؤلاء الشيوخ لهم الصوت العالى، والتأثير الأكبر، وصار لديهم طموحات أخرى، ليس من بينها تنبيه الغافلين، والجاهلين، وإنما جمع المال بطرق شتى، فى مُقابل إثارة الفتنة عبر الترويج لمذهبٍ ما، يراه الدين الحق مع أن الإسلام بلا مذاهب.

وهؤلاء لا يهمُّهم الحجر أو البشر، ولكن تهمُّهم جيوبُهم فى المقام الأوَّل، وحجم امتلائها، عبر ابتزاز السُّلطان (أو التحالف معه فى كثيرٍ من الوقت)، بعدما تأكَّدوا من أن لهم مريدين وأشياعًا من عامة الناس يقدِّسونهم، ويتبركون بهم.

ahmad_shahawy@hotmail.com