فى الدولة الديمقراطية الحديثة (نقصد بـ«الحديثة» هنا الدولة التى تجاوز نظامها الاجتماعى المرحلة العشائرية والقبلية).. فى مثل تلك الدولة تتضافر السلطات الثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، ويعمل كل منها بشكل متناغم ومتكامل مع الأخريين بما يكفل تحقيق غايات ومطالب المجتمع ككل، وفى مقدمة تلك المطالب مطلبان أساسيان هما: الأمن والعدالة.. وهنا يلاحظ أن العبء الأكبر يقع دائما على السلطة التنفيذية، فهى السلطة التى بدونها ستصبح الأحكام التى تصدرها السلطة القضائية حبراً على ورق، وستصبح التشريعات ذاتها التى تتقيد بها السلطة القضائية لدى إصدارها أحكامها، ستصبح بدورها حبراً على ورق، لهذا كان من الطبيعى أن تُمنح تلك السلطة من القوة ما يكفل لها أن تنهض بمهامها، وأن تستأثر وحدها دون سائر مكونات المجتمع بالحق فى استخدام القوة الجبرية وقت اللزوم، على أن يجرى ذلك داخل الإطار الذى تحدده الدساتير والقوانين..
غير أن الدولة فى مصر لم تكن قط ديمقراطية خالصة، بل إنهاـ وهذا هو الأفدح- لم تكن قط دولة حديثة (بالمعنى سالف الذكر)، فلقد كانت مسيرتها فى المجمل نحو الحداثة والديمقراطية مسيرة متعثرة منذ بدايتها فى القرن التاسع عشر وانتهاء إلى ما آلت إليه فى القرن الحادى والعشرين.. كلما خطت خطوات إلى الأمام سرعان ما انتكست وعادت إلى الخلف ربما نفس القدر من الخطوات وربما إلى المربع صفر!..
ما يعنينا فى سياق حديثنا الراهن عن الإرهاب هو أن سلطات الدولة كان لها- ومازال- منافس قوى فى صعيد مصر ينهض بنفس المهام التى يُفترض أن الدولة تستأثر بها، وفى مقدمتها الأمن والعدالة، هذا المنافس هو سلطة العائلة، ورغم أن الرهان فى أى دولة حديثة هو لصالح الدولة، كما ذكرنا فى مقال سابق، إلا أن التدهور الشديد الذى أصاب مرفق العدالة بشقيه: القضائى والتنفيذى على مستوى الدولة ككل، جعل الرهان فى صعيد مصر يرتد مرة أخرى إلى البديل الأكثر فاعلية وكفاءة ألا وهو سلطة العائلة، يكفى فى هذا المجال أن نقول إن من يتعرض لسلب حق واضح من حقوقه ثم يلجأ إلى القضاء يتعين عليه أن ينتظر ما بين خمسة وسبعة أعوام، وربما أكثر، قبل أن يصدر حكم نهائى لصالحه (يميل القضاء إلى إحالة الدعاوى المدنية جميعها إلى الخبراء- ربما تخلصا من أكداس الدعاوى المطروحة عليه- حتى لو كان النزاع المطروح لا يحتاج إلى أى نوع من الخبرة!!، ويستغرق مباشرة الدعوى أمام الخبراء فى أول درجة من درجات التقاضى ما بين خمسة وسبعة أعوام فى المتوسط).. وعندما يصدر حكم أول درجة فإنه غالبا ما يستأنف وبذلك يمتنع تنفيذه سنوات أخرى، وحتى لو لم يستأنف فإن من صدر الحكم لصالحه سرعان ما يكتشف أن ما بين يديه لا يختلف كثيرا فى طبيعته عن قرارات الأمم المتحدة وتوصياتها!، ومن ثم فهو يضطر غالبا إلى اللجوء إلى سلطة العائلة التى تملك من خلال جلسات التحكيم العرفى أو من خلال قوتها المسلحة أن تستعيد الحق المسلوب فى أيام أو فى أسابيع، غير أن سلطة العائلة شأنها فى ذلك شأن أى سلطة أخرى تمتلك القوة، كثيرا ما لا تخلو من عناصر معينة تنحرف بقوتها عن المسار الذى يكفل الأمن والعدالة لمن تظلهم بمظلتها، وتتحول بدلاً من ذلك إلى أداة لترويع العائلات الأخرى ذات القوة المسلحة الأقل.. وبهذا تتحول أدوات الأمن والعدالة إلى أدوات للإرهاب بمعناه الأصيل لا بالمعنى الطارئ الذى تكلمنا عنه فى الحلقات السابقة.