يفتتح اليوم مهرجان الإسماعيلية السينمائى الدولى الثامن عشر للأفلام التسجيلية والقصيرة، الذى ينظمه المركز القومى للسينما فى وزارة الثقافة برئاسة أحمد عواض وإدارة محمد عاطف، ويعلن جوائزه فى حفل الختام الثلاثاء المقبل.
يعرض فى الافتتاح الفيلم المصرى الروائى القصير «حار جاف صيفاً» (30 دقيقة)، وهو أحدث أفلام المخرج شريف البندارى، ويعتبر جوهرة الأفلام المصرية الروائية القصيرة عام 2015، ومن تحف الإبداع السينمائى المصرى بصفة عامة.
ولد شريف البندارى يوم 29 سبتمبر عام 1978 فى القاهرة، وتخرج فى كلية الفنون التطبيقية عام 2001، وعمل لفترة مهندساً فى أحد مصانع النسيج، ثم تخرج فى المعهد العالى للسينما عام 2007. وفى السنوات العشر الماضية، أخرج البندارى خمسة أفلام قصيرة هى الفيلمان التسجيليان «6 بنات» 2005، و«فى الطريق لوسط البلد» 2011، وثلاثة أفلام روائية هى «صباح الفل» 2006، و«ساعة عصارى» 2008، و«حظر تجول» 2011، وهو مقطع من الفيلم الطويل «18 يوماً» عن ثورة يناير 2011.
منذ فيلمه الأول، وفى كل أفلامه، أثبت شريف البندارى أنه من المواهب الحقيقية التى تصنع حاضر ومستقبل السينما فى مصر. وفى فيلمه السادس «حار جاف صيفاً» يصل إلى درجة عالية من النضج، ويقدم نموذجاً للفيلم الروائى القصير.
تدور أحداث الفيلم الذى كتبته نورا الشيخ، وهى كاتبة سيناريو من الطراز الرفيع، فى يوم واحد قائظ الحرارة فى الزمن الحاضر وسط القاهرة، حيث نرى شوقى، وهو أرمل عجوز يعيش مع ابنه الوحيد ويعانى من مرض السرطان، يستقل تاكسياً اعتاد التعامل مع سائقه للذهاب إلى طبيب ألمانى زائر. وفى الطريق، وكما هو معتاد فى القاهرة، تطلب دعاء أن تستقل نفس التاكسى يوم زفافها للذهاب إلى دار الأزياء حتى ترتدى ثوب الزفاف، ثم إلى استديو التصوير لالتقاط صورة الزفاف، وترافقها صديقتها المقربة. تحدث مفارقات عديدة فى حبكة متقنة عندما تأخذ دعاء تحاليل شوقى بالخطأ إلى دار الأزياء، وينجح شوقى فى استردادها، ولكنها تطلب منه أن يذهب معها إلى استديو التصوير حتى ترضى عريسها ولا تكون وحدها. وفجأة يعتذر العريس لانشغاله، فيطلب المصور من شوقى أن يحل محله، ثم يقوم بعمل «فوتوشوب» وتركيب صورة العريس.
وأخيراً يصل شوقى إلى العيادة، ونسمع الطبيب الألمانى يتحدث مع زميله المصرى بالإنجليزية ويؤكد أنه لا أمل فى شفاء شوقى، وأن أيامه فى الحياة معدودة. وفى المشهدين الأخيرين نرى دعاء بعد سنوات من الزواج وقد أنجبت أول أطفالها، وحامل فى الثانى. ثم نرى شوقى جالساً فى شرفة منزله وقد عاد شعره إلى النمو بعد أن كان قد فقده، ويأكل «آيس كريم» بمتعة كبيرة، وتتحرك الكاميرا إلى الحائط، وعليه صورته مع دعاء وهو يمثل دور العريس. كل فنون السينما تتكامل تحت قيادة شريف البندارى: تصوير فيكتور كريدى (ديجيتال ألوان)، ومونتاج عماد ماهر، وميكساج توماس فالمان، وديكور أحمد فايز، وأزياء ريم العدل، والأداء التمثيلى لكل من محمد فريد فى دور شوقى، وناهد السباعى فى دور دعاء، وكلاهما يقدم درساً فى فن التمثيل أو التمثيل كفن يرقى إلى مستوى العزف الموسيقى بالأداء والإلقاء والماكياج والأزياء المناسبين تماماً. ووراء هذا التكامل أربعة من المنتجين الجدد الذين يدركون أن السينما فن، وهم كلوديا الجعبة وصفى الدين محمود وحسام علوان وصبرى السماك. إنه فيلم قصير ولكنه إنتاج كبير، ليس من حيث الميزانية فقط، وإنما من حيث مستواه الفنى. ومنذ فيلمه الأول، وفى كل أفلامه، يبدو شريف البندارى «تشيكوفياً» أصيلاً. والمعروف أن الكاتب الروسى العظيم تشيكوف هو من جعل القصة القصيرة أدباً كاملاً بقدرته على تحويل موقف محدود إلى رؤية شاملة بغير حدود، وتحويل الإنسان العادى البسيط إلى «بطل» تراجيدى نبيل. تشيكوف هو الذى قال يوماً «قدس الأقداس عندى هو الإنسان»، وهذا ما عبر عنه فى مسرحياته وقصصه القصيرة.
فى «حار جاف صيفاً» نرى شوقى على وشك مغادرة الحياة، ودعاء على وشك أن تبدأها، وهو من الطبقة الوسطى الصغيرة، وهى من قاع هذه الطبقة. هو يستسلم لمصيره راضياً بقضاء الله، ونسمع على شريط الصوت فى المشهد الأول وهو يستعد للذهاب إلى الطبيب آيات من القرآن، ولا يهتم بالحوار الذى يدور بين الطبيبين حتى لو كان يعرف الإنجليزية. إنه يحمل زجاجة مياه ليروى ظمأه فى ذلك اليوم الحار منذ أول لقطة، وفى عيادة الطبيب نرى الزجاجة وقد أصبحت فارغة تماماً. وهى لا تريد شيئاً سوى أن تتزوج وتنجب قبل فوات الأوان حتى إننا لا نرى العريس، وتحقق حلمها بارتداء ثوب الزفاف والتقاط صورة الزفاف حتى لو «فوتوشوب»، وحتى لو فرض أهل العريس عليها أن تنتقل من القاهرة لتعيش معهم فى طنطا. مثل نجيب محفوظ، لأسماء الشخصيات دلالاتها. شوقى يصارع الموت ويشتاق إلى الحياة، ودعاء تصارع الحياة وتدعو أن تتحقق أحلامها. ويعبر شريف البندارى عن إيمانه التشيكوفى بالإنسان فى نهاية الفيلم التى يخرج فيها النور من قلب الظلمات، وينتصر شوقى على المرض، وينتصر القدر على العلم. وكما قال شكسبير فى مسرحية «هاملت» على لسان بطله عندما استنكر هوراشيو تصديق هاملت لظهور شبح أبيه «هناك أشياء كثيرة بين السماء والأرض تفوق كل ما تراه حتى فى الأحلام يا هوراشيو». لقد استعاد شوقى قدرته على الحياه عندما وجد نفسه عريساً مع دعاء بالصدفة، وكأن هذه اللحظة عون من السماء. وتبدو براعة المخرج عندما يقتصر استخدام المناظر الكبيرة (الكلوز أب) للممثل على مشهد تصوير صورة الزفاف، أو لحظة التنوير. وكذلك فى استبعاد الموسيقى على شريط الصوت والاكتفاء بأصوات الحياة، وفى أن تكون اللقطة الأخيرة لصورة الزفاف الحقيقية، وليست الصورة المزيفة «الفوتوشوب». شريف البندارى ينسج فيلمه، ويبدو أنه تأثر بعمله فى هندسة النسيج فى التعبير الدرامى بقدر ما تعلم الحرفة فى معهد السينما.
«حار جاف صيفاً» تعبير قوى عن جمال الحياة، وغموض الوجود، ونشوة الفن، فى آن واحد.