(1)
في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، مدفوعًا باحساس عميق بعودة مصر- التي كنت أراها بعيدة قبل ذلك- قررت قطع سنين اغترابي والعودة إلى الوطن.
كان كل هدفي أن تكون عودتي ذات فائدة وأن أنجح في صياغة خبرتي في الإعلام ورؤيتي له في برنامج شامل يناسب المرحلة الجديدة التي انتقلت إليها مصر بفضل ثورة يناير.
صِغتُ الفكرةَ وجهزتها بشكل مناسب، وأجريت عددًا من الاتصالات نجحتُ معها في تحديد موعد مع ألبير شفيق الذي كان مسؤولاً وقتها عن قناة «on tv»؛ فقد كانت القناة- بما تقدمه من برامج- هي الأقرب لأحلام وآمال قطاع كبير من المصريين- خاصة الشباب والطبقة المتوسطة والمثقفين والفنانين الحالمين بمصر جديدة بعد الثورة والمأمول أن يسهموا في تحريرها من ربقة الماضي الفاسد.
استقبلني الرجل في مكتبه في الزمالك استقبالًا لطيفًا. وكان مستمعًا جيدًا، حتى إنه راح خلال اللقاء يدون بعض الملاحظات في مذكرة ورقية على مكتبه، مما منحني الكثير من الأمل.
بعد شرح موجز أعرب عن شديد إعجابه بالفكرة، وأبدى رغبته في أن يكون تنفيذها تحت إشرافه المباشر، لأنها- حسب وصفه- «تقيلة ومحتاجة شغل».
اتفقنا أن يتم ذلك خلال شهور قليلة- فور الانتهاء من تدشين القناة الجديدة «أون تي في لايف» التي كانت في طور التجهيز وقتها.
أعطاني الرجل بطاقة العمل الخاصة به، وطلب مني أن أرسل له نسخة من التصور عبر بريده الإلكتروني، وودعني وقد بدت على وجهه ملامح التأثر الشديد، وأظن أنني لمحت دموعًا في عينيه وأنا أقول له إن هذا البرنامج هو وسيلتي للعودة إلى مصر خادمًا محبًا بعد غربة السنين.
لشهور طويلة بعد ذلك لم أحظ برد على محاولات الاتصال به، وعندما فعل، ظننت أن لقائي به تم في لحظة خيالية ليست من هذا العالم!
بعد مرور خمس سنوات على هذه اللحظة الحالمة، لم أنس هذا اللقاء الذي رسخ قناعاتي حول الكيفية التي يُدار بها الإعلام في مصر، إلا أنه رسخ كذلك إيماني بضرورة التشبث بحلم «وزارة التفكير».
(2)
منذ أسابيع قليلة، وخلال برنامج «أسبوع التراث المصري» الذي نظمه معهد الشارقة للتراث في دولة الإمارات العربية المتحدة، جمعتني الجلسة بالفنان المثقف طارق الدسوقي، تبادلنا خلالها الحديث حول مدى حاجة مصر إلى كل رأي وكل فكرة... حدّثني عن جهود يبذلها هو ونخبة من المثقفين والخبراء من أجل صياغة أفكارهم ورؤاهم بشكل عملي وإيصالها لأصحاب القرار. اتفقنا أنه إن كان دور كل مواطن مصري أن يكون داعمًا بما يملك من رأي أو خبرة أو معلومة لمتخذي القرار، فإن دور متخذي القرار تجهيز قنوات تسمح بذلك، والإصغاء بعناية إلى كل ما يتم اقتراحه، فلا نعلم في أي واحدة منها الخير.
تذكرت تجربتي مع «وزارة التفكير» وأخبرته عنها، لفت انتباهَه الاسم، واتفقنا على أن التفكير مهمة كل المجتمع، وقررت أن أضع فكرة البرنامج هنا، ربما تكون ملهمة لمن يمتلك القدرة على التنفيذ.
(3)
وزارة التفكير برنامج إعلامي تفاعلي متعدد الواجهات، يعمل على منصة تليفزيونية بمساندة الصحافة الورقية والإلكترونية، والأساس فيه أنه «وزارة» مهمتها «التفكير» تستمد شرعية الوجود من توفير فرص المشاركة لكافة فعاليات المجتمع، وهو يعمل وفق منهج تحويل الأفكار إلى برامج وخطط عمل قابلة للتطبيق.
و«الوزر» في اللغة هو الملجأ أو الجبل المنيع، ومنها اشتقت كلمة «وزير» و«وزارة» في إشارة إلى أن الوزارة هي الملجأ الذي يفترض فيه أن يحمي الناس من الخطر، والوسيلة هي التفكير والتخطيط والعمل.
وعليه فإن الحديث عن وزارة للتفكير هو حديث عن الملجأ الذي يُفترض أن يحمي الناس من خلال إعلاء دور العقل من أجل تجاوز عقبات الراهن وقطع خطوات نحو مستقبل مدروس ومخطط، وهو أشد ما تحتاج إليه مصر في المرحلة الراهنة.
لكن ما هو التفكير؟ التفكير هو ما يحدث في الفترة بين أن يرى المرء شيئاً ما، وأن يعرف ما سيفعله تجاهه، خلال هذه الفترة تتتابع الأفكار، في محاولة لتحويل موقف جديد وغريب إلى موقف منظم نعرف كيفية التعامل معه. فالهدف من التفكير إذن هو أن يعرف الكائن ما ينبغي عليه عمله.
والمقصود بالتفكير في البرنامج هو (التفكير العلمي) وهو تفكير قائم على منهج محدد وواضح، فعند التفكير في حل مشكلة معينة وفقاً للمنهج العلمي يجب اتباع الآتي:
- تحديد المشكلة بدقة وتعريف أسبابها (بماذا تفكر).
- تحديد الهدف من حل المشكلة (لماذا تفكر).
- تحديد البدائل (الحلول) الممكنة (كيف تصل لما تريد).
- اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه. (كيف تصل إلى ما تريد على أفضل وجه).
ولا شك في أننا في المرحلة الراهنة في أشد الحاجة إلى هذا النوع من التفكير.
(4)
يعمل برنامج (وزارة التفكير) وفقاً لمفهوم المؤسسة التي تسعى إلى تركيز جهود العديد من أطراف المجتمع على مجموعة من القضايا الهامة على سلم الأولويات، للتفكير بشأنها وفقاً لمنهج علمي عبر خطوات محددة، وبالاستعانة بمجموعات عمل متخصصة من الخبراء في المجالات ذات الصلة، ومن فئات المجتمع المستهدفين بالعمل، والمضي قدماً في ذلك من خلال كافة أشكال البحث والحوار والدراسات المقارنة للتجارب الدولية الأخرى Benchmarks وصولاً إلى وضع تصور علمي عملي مشفوع بتوصيات الخبراء باعتباره صالحاً للتطبيق في الوضع المصري الراهن.
ما الذي يميز البرنامج عن أي مؤسسة بحث علمي؟ وما الذي يميزه عن أي برنامج إعلامي؟
يعتمد البرنامج على أسلوب العصف الذهني Brainstorming بين اللجان وفرق العمل التي تتمثل فيها كافة التخصصات والخبرات وأطياف الشعب، يتم تشكيل هذه اللجان وتحديد آليات عملها والأدوار المنوطة بها وفقاً لنوع وطبيعة القضية التي يتولى البرنامج دراستها وصولاً إلى صياغة التصور المقترح. ومن أمثلة هذه اللجان:
لجنة المستشارين: وهي لجنة دائمة (وإن تغير أعضاؤها) وتضم نخبة من أبرز مفكري ومثقفي مصر بغض النظر عن تخصصاتهم العلمية، بمعنى أنها تضم أصحاب الرؤى والمنظومات الفكرية والطروحات النظرية والعملية للاستفادة من آليات التفكير لديهم، وليس مجرد الاستفادة من خبرتهم في تخصصات بعينها، مثلما هو مفترض مع أعضاء اللجان التخصصية.
واللجان التخصصية تضم أصحاب خبرات في مجالات محددة منها على سبيل المثال اللجنة القانونية: وتضم نخبة من أساتذة القانون في الجامعات المصرية، والمحامين أصحاب الخبرة في العمل، والمستشارين القانونيين من أصحاب الكفاءة والخبرة في العديد من التخصصات.
واللجنة الاقتصادية: وتضم نخبة من الأكاديميين المتخصصين في علوم الاقتصاد والمالية والمحاسبة بأنواعها المالية والحكومية والمختصين في دراسات الجدوى الاقتصادية والخبراء الماليين والعقاريين وخبراء البورصة والأسهم والبنوك…إلى آخر ذلك من لجان متخصصة أخرى وفقاً لطبيعة القضية المطروحة، على سبيل المثال كذلك:
لجنة التأمين: وتضم نخبة من المتخصصين في صناعة التأمين وإعادة التأمين وأساتذة التأمين والمستشارين والفنيين العاملين في هذه الصناعة عندما يكون الملف قضية التأمين الصحي في مصر مثلاً.
ولجنة الموازنة: وتضم نخبة من المتخصصين في علم الموازنة والمالية الحكومية عندما تكون القضية إعادة النظر في طريقة إدارة موازنة مصر، ودراسة أطروحة ضرورة التحول من نظام الموازنة التقليدية إلى موازنة البرامج والآداء.
تُوكل لكل لجنة من اللجان المشار إليها مهمة دراسة القضية من زاوية تخصصها، ويتم الاتفاق على أسلوب العمل وآليات التواصل بما يُحقق النفع منها، ويتم إنشاء موقع لكل لجنة على الفيس بوك لتواصل الأعضاء فيما بينهم وكذلك استقبال مداخلات الجمهور من عوام أو متخصصين ودراسة إمكانية الإفادة منها في القضية محل الدراسة. ويكون لكل لجنة مقرر مهمته تلخيص المداخلات والمناقشات من الأعضاء وغيرهم لتسهيل الإفادة منها في صياغة التصور وكذلك عرضها من خلال البرنامج ووسائل الإعلام الموازية التي تعمل بالتنسيق مع البرنامج.
وزارة التفكير ووسائل الإعلام الموازية:
يعمل برنامج (وزارة التفكير) التليفزيوني باعتباره منصة تفاعلية تُشرك الرأي العام فيما يتم القيام به من مهمة (تفكير) من أجل الوصول إلى تصور عملي صالح للتطبيق.
بالتوازي مع البرنامج التليفزيوني سوف تعمل مجموعة من وسائل الإعلام الورقية والإلكترونية لاستكمال المهمة، بحيث تستوعب الصحافة الورقية المحتوى الذي لا يمكن للصحافة المرئية استيعابه (مثال: حوار مطول مع أحد الخبراء أو المسؤولين للإحاطة بأبعاد القضية محل المناقشة والدراسة، سوف نكتفي في البرنامج التليفزيوني بخلاصات الحوار التي تتعلق مباشرة بالقضية، بينما نحيل الجمهور إلى الصحيفة المشاركة لكي يتمكن من الاطلاع على الحوار كاملاً، كما نحيله على الموقع الإلكتروني ليتمكن من التداخل بالرأي أو بالوثائق حول ما أثير خلال الحوار). (مثال: جريدة المصري اليوم، جريدة اليوم السابع، الشروق ...الخ).
بهذه الصورة تتحقق لـ(وزارة التفكير) ميزة المنصة التفاعلية ويكتسب شرعية وجوده كبرنامج من خلال مشاركة ممثلين لكافة أطياف المجتمع في هذه المنصة وتتحقق فكرة الشفافية في الطرح والشورى المجتمعية بمعنى أن يشارك الناس في اقتراح برامج عمل الحكومة.
سوف تواجه لجان العمل خلال خطوات البحث والدراسة التي تقوم بها عدة متطلبات أو عقبات تستدعي التواصل مع المسؤولين الحكوميين، وفي هذه الحالة يقوم البرنامج بتنسيق لقاءات مع الضيوف من المسؤولين (حسب أهمية العائق أو الخلاف) لاستعراض الأفكار ومناقشة آليات تعاون تلك الجهات الحكومية في تسهيل عمل اللجان لوضع التصور بما يحقق الصالح العام، أو إخبار الرأي العام بأن العائق يكمن في هذه المساحة وما إذا كان عائقاً منطقيا أم أنه مجرد فهم روتيني أو عدم قدرة على التغيير ..إلخ، ومن واقع نتيجة اللقاء مع المسؤول يتم الانتقال إلى الخطوات التالية من العمل.
إلى جانب ذلك سوف يهتم البرنامج التليفزيوني بلقاء عينات من البشر الذين تتعلق حيواتهم أو أعمالهم بالقضية محل الدراسة للتعرف على وجهات نظرهم وتعليقاتهم ويمكن أن يتم تصوير ذلك خلال الدراسة الميدانية التي سيتم اجراؤها بنظام العينات العشوائية المختارة وفقاً للمنهج العلمي خلال مراحل التجهيز للمشروع، ويمكن عرضها في الحلقات ضمن التقارير أو Voxpops ضمن فقرات البرنامج.
الحلقة الأولى:
تهتم الحلقة الأولى من البرنامج بتدشين المشروع / البرنامج (وزارة التفكير) كمفهوم جديد في الإعلام العربي، وإيضاح أبعاده والتعريف بآليات عمله، وتقديم وسائل الإعلام المشاركة فيه (الصحافة الورقية والإلكترونية المتعاونة) والتعريف بالمؤسسات الداعمة والراعية له، وتقديم أبرز أعضاء اللجان المشاركة فيه.
وسوف يكون محور الحلقة مناقشات وتنويعات على معنى التفكير وأنواعه وأشكاله، يدار الحوار خلال فقرات الحلقة الأولى فيما يشبه العصف الذهني لاستخلاص قائمة بالقضايا التي يقترح برنامج وزارة التفكير التعامل معها باعتبارها أولويات للعمل الحكومي في مصر خلال الفترة المقبلة وبالتالي يُدرجها على قائمة التفكير.
من ضيوف الحلقة: رؤساء وعدد من أعضاء اللجان المختارة، ممثلين للصحف ووسائل الإعلام المشاركة، ممثلين للمؤسسات الراعية والداعمة، مستشاري المشروع من المفكرين والباحثين المصريين في المجالات المختلفة، وممثلين لشرائح مختلفة من المجتمع.
خلال الحلقة الأولى سوف يتم استعراض برنامج العمل الخاص بوزارة التفكير الذي يشبه خطة عمل حكومة، مع بيان المحاور الرئيسية التي يعتمد عليها هذا البرنامج وأبرز قضاياها التي تحتاج إلى خطة عمل نابعة من فهم عميق للواقع المصري.
حلقات التدشين:
لنفترض أن عدد هذه القضايا 10 (على سبيل المثال)، إذن سوف تحتاج كل قضية منها إلى حلقة تدشين، تتضمن هذه الحلقة التدشينية عرضاً دقيقاً للقضية واستقصاء آراء كافة الأطراف المعنية بها بداية من الشارع وصولاً إلى الجهات الرسمية المسؤولة مروراً بكافة الفعاليات الفكرية والمدنية وغيرها، يُستخدم في ذلك كافة أشكال التعبير التليفزيوني: تقارير مدروسة ومعدة بعناية، لقاءات مع الفئات الأكثر تأثراً Voxpops، حوارات حية مع أقطاب القضية وضيوف مختارين لمناقشة وتسليط الضوء على وجهات النظر المتباينة أو المتقاطعة واستخلاص محاور عمل، وغيرها من أشكال ... وصولاً إلى إعلان (وزارة التفكير) إحالة ملف القضية إلى (المؤسسة) وهو مصطلح افتراضي يحاول أن يصف كل العمليات التي سوف تتم بدءاً من إعلان إحالة القضية إلى اللجان المعنية لبدء الدراسة وفقاً للخطوات المنهجية العلمية، وصولاً إلى اقتراح برنامج عمل بشأنها، على أن يتم متابعة ذلك أولاً بأول من خلال حلقات البرنامج التليفزيونية ووسائله الإعلامية المساندة.
على مدار 10 حلقات (وفقاً للافتراض السابق) سوف يكون لدى (وزارة التفكير) 10 حلقات تدشينية (على الأقل) تطرح خلالها وتناقش أدق تفاصيل القضايا التي تراها من وجهة نظرها حيوية، لتحيلها بعد ذلك إلى (المؤسسة).
بقية الحلقات:
من واقع أعمال (المؤسسة) على القضايا التي تحال إليها، يعمل فريق إعداد البرنامج على تجهيز حلقات (وزارة التفكير) التالية، والهدف الرئيسي من هذه الحلقات هو أن تكون همزة وصل بين المجتمع والرأي العام وبين اللجان العاملة وإحاطة الرأي العام بنتائج الأعمال وشرح وتبسيط ما يكون معقداً منها ليصل إلى الناس بأساليب بسيطة وشيقة، وفتح باب النقاش حول النتائج لتعميقها وتعديلها إذا لزم الأمر، واستقبال مقترحات الجميع من خلال وسائل رجع الصدى المتعارف عليها: المداخلات التليفونية، المواقع الإلكترونية، الصحافة وغيرها وفرز وتنقيح تلك المداخلات والخروج منها بمادة صالحة للتطوير وكذلك للعرض إعلامياً. بالإضافة إلى مهمة رئيسة وهي استخدام سلطة الإعلام لتذليل العقبات التي قد تواجه تلك البرامج/ الخطط، من خلال مواجهة المسؤولين الحكوميين بها واستضافتهم لمناقشتها معهم، واستمالة مؤسسات المجتمع المدني واستقطاب القطاع الخاص ورجال الأعمال والمستثمرين وقيادة ما يلزم من مبادرات مجتمعية تخدم هدف الخطة.
وعندما تتيقن وزارة التفكير من أن لديها ملفًا متكاملًا للمشكلة والحل الأفضل لها وخطة عملية لتنفيذه، فإنه يقوم بحمل الملف في حلقة خاصة إلى مكتب رئيس حكومة مصر ويسلمه الخطة أمام الناس مع بيان مدى مناسبتها للتنفيذ، وللحكومة حق الرد والتفنيد.