تلقيت الأسبوع الماضى دعوة كريمة من الأستاذ الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، لحضور حفل منح درجة الدكتوراه الفخرية للعاهل السعودى الملك سلمان بن عبدالعزيز.. وبقدر ما كان الحفل مهيبا رغم قصر مدته إلا أننى شعرت بالفخر الشديد لجملة قالها الملك سلمان فى خطبته القصيرة، وهى أنه ينحنى للجامعة!..
ارجع لكلمات من شئت من الرؤساء والملوك العرب ستجدهم يؤكدون أن مصر لها مكانة خاصة فى قلوبهم، لكنك عندما تبحث عن سر تلك المكانة الخاصة ستجد أنها جامعة القاهرة التى درسوا فيها، لتكتشف أن جامعة القاهرة هى التى حفرت مكانة مصر فى قلوب الزعماء العرب على مر السنين.. قبتها لها سحر خاص يتسلل إلى قلبك ما إن تلوح لك من بعيد وأنت فى شارع النهضة.. أذكر صدمتى وحسرتى عندما اكتشفت أن كلية طب قصرالعينى التى سأدرس بها تقع خارج الحرم الجامعى وبعيدا تماما عن القبة.. حسيت إنى اتخميت!...
سامعاك يا حمادة بتتلامض مثل عواجيز الفرح وتنتقد منح الملك سلمان درجة الدكتوراه الفخرية.. معذور.. بجِملة الجهل المتفشى هذه الأيام، فأنت لا تعلم أنه طقس متبع عالميا بتكريم من يتبرع لأى جامعة إما بإطلاق اسمه على إحدى القاعات أو حتى أحد مبانى الجامعة، فما بالك بقى بمن يتبرع لتطوير قصرالعينى بحاله؟!..
لكن جامعة القاهرة بالذات غير بقية الجامعات فى العالم.. جامعة القاهرة بالذات هى حضارة فى حد ذاتها.. الثقافة يا حمادة ليست بأن تقرأ مئات المراجع فى تخصصك، ولا هى إنك تقرأ آلاف القصص والروايات ودواوين الأشعار، الثقافة يا حمادة إنك تكون تركيبة.. تركيبة ملمة بأساسيات شتى العلوم والفروع بالإضافة طبعا لتخصصك وأن ينعكس هذا على طريقة تفكيرك وأسلوبك فى التعامل.. وطول عمرها جامعة القاهرة تهتم بتكوين هذه التركيبة.. كان دائما هاجس المستعمرين الأساسى هو إبقاء الشعوب المحتلة فى غياهب الجهل، ونرى هذا فى مراحل تأسيس جامعة القاهرة التى بدأت عبر تأسيس مدرسة المهندس خانة عام 1820م، والمدرسة الطبية عام 1827م الذين أغلقهما الخديوى محمد سعيد إيمانا منه بأن الشعب الجاهل أسلس فى القيادة!..
لكن فى 21 ديسمبر 1908 تأسست جامعة القاهرة كجامعة أهلية تحت مُسمّى الجامعة المصرية بعد حملة مطالبة شعبية واسعة بقيادة رواد حركة التنوير فى مصر آنذاك من أمثال: مصطفى كامل، محمد عبده، محمد فريد، قاسم أمين وسعد زغلول، وذلك على الرغم من معارضة سلطة الاحتلال الإنجليزى بقيادة اللورد كرومر.. من يومها أصبحت جامعة القاهرة منبعا رئيسيا للمبدعين، حتى جاءت كبوتها فى سنوات حكم مبارك.. بعد سقوط حكم الإخوان، كتبنا كثيرا عن ضرورة عودة مساهمة الجامعات المصرية فى الحركة التنويرية المفتقدة كوسيلة رئيسية فى مكافحة الإرهاب وتنظيف العقول، وكان دائما د. جابر نصار هو أول المستجيبين إن لم يكن الوحيد على الإطلاق!..
أذكر أننى العام الماضى كنت قد هاجمت وزير الثقافة آنذاك ورئيس الجامعة لانعدام النشاط الثقافى فى الجامعة مما أوجد بيئة خصبة لتطرف الطلبة وتجنيدهم فى التنظيمات إياها، لكن لم يمر العام إلا ووجدنا النشاط الثقافى يعود بقوة، خصوصا مسرح الجامعة، ثم بدأت الندوات مع كبار الأدباء والمبدعين.. مؤخرا بدأت الجامعة تستعيد حفلاتها الغنائية التى كان يحييها فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب فى العصر الذهبى للثقافة، فرأينا الشهرين الماضيين حفلات لمحمد منير وآمال ماهر وغيرهما، وبلغت عودة الروح مداها بمهرجان للأنشطة الطلابية تضمن مسابقة بين طلاب الجامعات فى 21 مجالا منها العروض المسرحية، والإنشاد الدينى، وموسيقى، وغناء، وشعر عامية وفصحى.. لا أنكر يا حمادة أن لماضتى جعلتنى أثناء متابعتى لتلك الأنشطة أتساءل: هو إحنا هنقضيها طبل وزمر ولا إيه؟ فإذا بالنشاط الطلابى للجامعة يقدم مسابقة للاختراعات فى يناير الماضى ضمت مسابقة بين سيارات تتحرك باستخدام الطاقة الشمسية فقط، شارك فيها فرق من مختلف الكليات والجامعات.. لكن قمة فخرى كانت ببدء الصالون الثقافى للجامعة هذا الشهر، وهذا طقس لم تعرفه الجامعة من قبل، ويمثل ابتكارا وتجديدا يحسب للدكتور جابر نصار، فالأهم من إعادة إحياء المنهج هو تطويره والإضافة عليه.. أشهر بالفخر لعودة جامعة القاهرة منبعا للحضارة.. فوالنبى يا حمادة تبطل انتقاد، فمهما تلقى الملك سلمان تكريما من جامعات مختلفة سيظل التكريم من جامعة القاهرة وأن يدخل القاعة الكبرى ويجلس تحت قبتها حاجة تانية خالص!
www.facebook.com/ghada sherif