متعصب بطبعه

إبراهيم الجارحي الإثنين 18-04-2016 16:52

لدينا كجماعة بشرية ميل طبيعي للحدية، أي ميل طبيعي لترسيم المواقف المحددة الواضحة أو المتطرفة أحيانا من الأشياء، وعليه نشأت لدينا قناعة بأننا ملتزمون بنازع ما إلى بناء تعصباتنا من – أو ضد – أي شيء، وبالضرورة من أو ضد كل شيء.

ومع تطور هذه النزعة الحدية المتطرفة، أصبح المصري المثالي شخصا متعصبا بالضرورة لكل شيء يعرفه ضد نقيضه، فهو يحب الشاي مثلا ولديه أدبيات شديدة الضراوة في نقد شاربي القهوة، أو هو يحب القهوة ولديه تعليقاته القاسية على التأخر الذهني والحضاري لشاربي الشاي، أو هو يشربهما معا، لكنه مع ذلك لديه انتقادات متطرفة لتطرف أي منهما لمشروبه.

وابتعد بنا الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى درجة البحث عن خطوط جديدة للاختلاف عليها، كالبحث في الدوري الإسباني عن معركة انتماء بين برشلونة وريال مدريد، وفي الدوري الإنجليزي عن معركة انتماء موازية بين مانشستر يونايتد وأرسنال، وفي الدوري الألماني بين بايرن ميونخ وبروسيا دورتموند.

وهكذا ومع تباديل وتوافيق متسلسلة يتحول المصريون إلى سلال منعزلة، في كل سلة حزمة من التعصبات تختلف بأبسط العمليات الحسابية عن السلة المجاورة، ما بين تعصبات سياسية واجتماعية ورياضية واقتصادية وحياتية، يتحول الاختلاف بين أفراد الجماعة الإنسانية إلى صراع مفتوح يمثل فيه كل فرد قطبا له توازناته التي تخصه، وهو قطب في حالة تنافر مع غيره من الأقطاب بحكم الخلافات الحادة على شيء واحد على الأقل.

لقد حققنا ما كان يعتبر من قبل النكتة التي تقول إن كل نقاش بين نيجيريين اثنين تحمل بالضرورة ثلاث وجهات نظر مختلفة، فالواقع أن خطوط الاختلاف الحاد بين مصريين اثنين سيولد عنها بالضرورة أكثر من ثلاثين وجهة نظر حتى لو كان الخلاف على موضوع واحد.

وما دامت الأمة المصرية على هذا الحال من التفرق والانقسام، فآخر ما كانت تحتاج إليه هذه الأمة الآن هو خط جديد للانقسام والجدل، خاصة بعد أن تقدمت هذه الانقسامات إلى أرضية المجتمع المصري وبين مكوناته الأساسية.

فلمحة بمنظور عين الطائر على المجتمع المصري تظهر أن الخلاف والانقسام قد وصل إلى درجة وبائية أصابت العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة وعلاقات الزمالة في العمل، وهي العلاقات الأولية للإنسان المصري التي أصبحت محكومة بمواقف الأفراد من ثورة يناير وثورة يونيو وبايرن ميونيخ وبرشلونة وجزيرتي تيران وصنافير وبرنامج أبوحفيظة أم برنامج أحمد أمين.

ولا يمكن ولو حتى لأكثر المراقبين تفاؤلا أن يتوقع أن يؤدي مجتمع بهذا القدر من الاستقطاب والتطرف على كل الخطوط أن يؤدي أداء المجتمعات ذات التوافقات الرئيسية، خاصة وأن هذه التوافقات الرئيسية في قناعات المجتمعات هي التي تقودها إلى الالتفاف حول أهدافها ومشروعاتها القومية.

النسيج الاجتماعي المصري وصل إلى درجة من التفكك لا تترك مجالا لدق ناقوس الخطر، فحتى صوت ناقوس الخطر سيجد من يتطرف في معارضته والتسفيه من قيمته، وسيجد من يتعصب لمضمونه ويبالغ في تصورات الخطر، وسيجد من يتطرف في تسفيه الطرفين المتناقضين والمبالغة في الانفصال عنهما.

صحيح أن المجتمعات التي لا تعرف الخلاف تموت، لكن المجتمعات التي يضرب الخلاف كل ركن من أركانها ينتهي بها الأمر إلى الانتحار.

الأمر المشترك بين المنتحرين جميعا هو أنهم يفقدون حس المنطق الذي يحفظ على الإنسان حياته، وينقذه من المخاطر التي تتهدده، أما المنتحر فهو يسير في الاتجاه المعاكس ساعيا إلى هلاكه بكل ما أوتي من قوة وإبداع ودأب، وهذا هو ما وصلت إليه الأمة المصرية اليوم بنزعة جماعية.

والبديل الوحيد لهذا الانقراض الاختياري هو أن تنقل الأمة نظرها من دوافع الهلاك إلى دوافع البقاء، وأن يتوقف أبناؤها عن الافتراس الجائر للمادة التي تمسك أوصالها معا، وأن يتوقف السباق بيننا على من يقطع أولا الحبل الذي نتعلق به جميعا فوق هوة لا يعرف عمقها إلا الله.