مأزق الشعبوية

جمال أبو الحسن الأحد 17-04-2016 21:19

فى ظاهر الأمر لا تبدو هناك أى مُشكلة على الإطلاق فى الشعبوية. الكلمة نفسها مُستمدة من «الشعب» أى الناس. ما الضررُ فى أن تتحرك السياسة فى مدار الناس؟، ما العيبُ فى أن يقود الشعبُ ويوجِّه؟، أن يُلهِم ويُحرِك؟، أليست هذه هى الديمقراطية التى تعنى حُكم الشعب بالشعب وللشعب؟ الشعبوية تبدو- والحال هذه- صنواً للديمقراطية. مرادفاً لها وشرطاً لنجاحها.

ولكن ما هى الشعبوية بالضبط؟

الشعبوية منهج كامل فى تناول السياسة. أسلوبٌ فى التعاطى مع قضاياها. غاية الشعبوية هى السعى لتحريك عاطفة كتل واسعة من الجماهير فى المُجتمع إزاء شأن من الشؤون العامة. القادة الشعبويون يخاطبون العاطفة لا العقل. ذخيرتهم هى البلاغة والشعارات، لا الحجج أو المنطق. هدفهم هو تغيير الأوضاع القائمة فى أسرع وقت. قاموسهم لا يعرف الخطط الطويلة أو الأهداف المُركبة. لا يُقدمون حلولا رشيدة بل جُملة من السياسات الانتقامية. مصدر قوتهم الذى لا ينفد هو الشعور بالظلم والغُبن لدى جمهور واسع.

لا يخلو مُجتمع سياسى- عبر التاريخ- من شعبويين. السبب بسيط. المُجتمعات الإنسانية مُصممة على أساس سيطرة القلة على الثروة والسُلطة. طبيعى أن يجد من ينادون برفض هذه الأوضاع جمهوراً عريضاً من الناقمين وأصحاب المظالم. طبيعى أن يصادفوا آذانا صاغية لخطبهم الرنانة المُفعمة بالعطف على الجمهور الواسع، وفضح ما يتعرض له من إجحاف.

الشعبوية والديمقراطية تتقاطعان ولا تتطابقان. كلتاهما تنطلق من الشعب. كلتاهما تستهدف الشعب. إلا أنهما ليستا شيئاً واحداً. بل إن الشعبوية هى آفة الديمقراطية. «أرسطو»، فيلسوف اليونان الأشهر وعالم السياسة الأول، لاحظ خطورة الشعبوية على النظام الديمقراطى. هو أدرك أن أى ديمقراطية مآلها إلى «حكم الغوغاء»، أنه إذا تمكنت الأغلبية من الحُكم فسوف تضطهد حتماً الأقلية الأرستقراطية (بفرض الضرائب المُجحفة مثلاً). هذه المُعضلة ظلت تؤرق الفكر الإنسانى قروناً طوالا. كيف يحكم الشعب نفسه بنفسه من دون أن ينزلق إلى نفق مُظلم من «حُكم الغوغاء»؟.

الحل كان بسيطاً وصعباً فى آن: تأسيس الديمقراطية على القانون، وليس الأغلبية الشعبية. صاحب السُلطة الحقيقى فى الديمقراطيات (الفعلية وليست الشكلية) هو القانون والدستور، وليس الأغلبية الحاكمة. عندما يحكم القانون، حقا وصدقا، روحا ونصا، يأمن المجتمع شرور الشعبويين. لا يعنى ذلك اختفاءهم كُليا من المشهد. الحال أنه لا يخلو مُجتمع- ديمقراطيا كان أو شموليا- من قادة يعتمدون الشعبوية منهجا وطريقا. غير أن الديمقراطية الدستورية تُسهم فى كشف هؤلاء القادة. تحول بينهم وبين تحقيق السيطرة الكاملة. تُبعدهم عن تحقيق غاياتهم. تقف سدا منيعا دون تنويم المُجتمع مغناطيسيا. تسمح للآخرين بالتصدى للشعبويين ومواجهتهم من دون أن يجرى رميهم بالخيانة أو الخروج عن الصف.

مصر لديها تاريخ طويل مع الشعبوية. الـ«دى إن إيه» للثقافة السياسية للمصريين مؤسس على الشعبوية. فشلنا المُستمر والمتكرر فى إقامة حياة ديمقراطية سليمة أعطى الفُرصة لاستفحال هذا المرض السياسى العُضال. الشعبوية- فى رأى كاتب السطور- هى الآفة القاتلة للسياسة المصرية. المانع لأى تقدم. الحائل الصلد دون أى نهضة. الحاجز الذى حجب عنا العبور إلى المستقبل، ولا يزال.

تعود جذور الشعبوية إلى الحركات السياسية السابقة على يوليو 1952. على أن الضباط الأحرار أخذوا هذا النهج إلى مستوى آخر أكثر عُمقاً وخطراً. جمال عبدالناصر صنع من الشعبوية دستورا للدولة وأساسا للحُكم. على السطح، تفترض الشعبوية أن الشعب هو «المُعلم» والموجه والبطل والمُلهم. فى العمق، تُغذى الشعبوية الفكرة النقيضة لذلك. الشعب، فى نظر الشعبويين لا يعرف طريقه الحقيقى. لا يُدرك كُنه ما يُحاك له من مؤامرات ومخططات شريرة. من هنا مركزية دور القيادة المُلهمة فى المنظومة الشعبوية. هذه القيادة تُدرك حجم المؤامرة الكُبرى. دور الناس ينحصر فى مساندتها ومؤازرتها عن إيمان- شبه غيبى- بأن هذه القيادة ترى ما لا يرون. عن يقين بأنها قيادة بطولية، فذة، طاهرة، مُنزهة عن الغرض، لا تنطق عن الهوى، قادرة على اجتراح المُعجزات. لا شعبوية من دون قيادة بطولية ومؤامرة كبرى. العاملان يُغذى كلٌ منهما الآخر. المؤامرة مطلوبة لتبرير القيادة المُلهمة. والقيادة لا غنى عنها للتصدى للمؤامرة. هكذا كانت «الناصرية» فى مصر، والبيرونية فى الأرجنتين، وحُكم «فراجاس» فى البرازيل. كُلها صورٌ مختلفة لأصل واحد. كلها تجاربٌ آلت لنتائج متفاوتة من الخراب والتدمير والإفقار، وصولاً إلى احتلال التراب الوطنى فى حالة مصر الناصرية.

طلقت الإدارة المصرية السياسات الشعبوية الفجة منذ السبعينيات، بعدما كادت هذه السياسات أن تورد الدولة والمُجتمع موارد التهلكة والضياع. إلا أن النهج الشعبوى لم يُغادر، ولو للحظة، ثقافتنا السياسية. فى أعمق أعماق هذه الثقافة تقبع الأسطورة الناصرية بعناصرها الثلاثة: البطل المُلهم، والشعب المُصفق المُهلل، والمؤامرة الكُبرى. هذا الثالوث ظل حاضراً وحاكماً فى ثقافتنا وممارساتنا. استمر فاعلاً ومؤثراً فى كل نقاش سياسى. تجلى ذلك بصورة أكبر بعد يناير 2011. وجدنا من يُهلل لمُهاجمة السفارات عبر تسلق البنايات. سمعنا من يهتف للمُحاكمات الثورية والتطهير. صارت كلمات خطيرة، كالخيانة والعمالة، سهلة على الألسن، رائجة بين الناس. الحالة الشعبوية السائدة فى مصر اليوم تدور فى حلقة مُفرغة. شعبوية الحُكم تُغذى شعبوية ومُزايدات المعارضة. كُلما أمعن الحُكم فى اختراع الأساطير، حاربتُه المعارضة- من جانبها- بأساطيرها المُضادة. هكذا، نظل أسرى دوامة خبيثة لا نهائية من المُزايدات والمزايدات المضادة. هكذا، تضيع فُرصة المُجتمع فى مناقشة أى قضية معروضة أمامه مناقشة جادة وأمينة، مُجردة عن الهوى السياسى، منزهة عن الرغبة فى المُكايدة والانتقام والتنكيل والتخوين.

هل يأتى على مصر حين من الدهر يُدرك فيه ساستها ونخبها المؤثرة أن توظيفهم الشعبوية والمزايدة يُعطى الحُكم الفرصة لاتباع النهج نفسه عندما يجد ذلك فى صالحه؟.

gamalx@yahoo.com