كان الصيف آخذا فى الاقتراب، وشهر مايو 1967 يقترب من نهايته، عندما أعلنت مصر فجأة عن طلبها سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء، ومعه إغلاق مضيق العقبة أو ما صار معروفا بعد ذلك باسم مضيق تيران. أُصيب الرأى العام المصرى فى ذلك الوقت بدهشة بالغة، فلا أحد كان يعرف أن مضيق تيران كان مفتوحا، كما أن أحدا لم يكن يعرف أن هناك قوات للأمم المتحدة على الأرض المصرية، بينما رفضت إسرائيل وجود هذه القوات لديها. اندفعت الآلة الإعلامية المصرية قائلة إن ذلك كان من النتائج التى آلت إليها حرب 1956، وأن مصر بإجراءاتها إنما تقوم بتصحيح ما سُلب منها، وهو سيادتها على المضيق الذى هو فى المياه الإقليمية المصرية. ولم يكن ذلك ما يعرفه المصريون عن حرب 1956 ولا عن مرور السفن الإسرائيلية فى مضيق تيران، فالحرب كانت مصر فيها منتصرة، ولأنها كذلك فإن مصر لم تقدم تنازلا واحدا لإنهائها، ولم يكن مفهوما- ونحن منتصرون- أن توجد القوات الدولية على أراضينا، بينما رفضت إسرائيل.
على أى الأحوال فإن الدهشة لم تستمر طويلا لأنه بعد أيام جرت حرب يونيو 1967 وانتهت إلى ما آلت إليه الأوضاع فى سيناء وجزيرة تيران، وبات على المصريين الاهتمام بما هو أكثر أهمية. أمر من هذا جرى لدينا خلال الأيام الماضية عندما أُعلن فجأة عن توقيع اتفاق مع المملكة العربية السعودية حول جزيرتى تيران وصنافير، ومن ساعتها التهبت الحالة السياسية فى مصر بين مؤيد ومعارض. والمدهش أن الالتهاب جرى رغم أن الاتفاقية نفسها لم تُعلن، وكان ذلك إشهارا لحالة سابقة على الاتفاق، وانعكاسا لاستقطاب سياسى بدأ تدريجيا فى تكوين تحالفات غير مقدسة بين أطراف كانت متباعدة فكريا ومبدئيا. وأصبح العجب ذائعا حينما صار الجميع خبراء فى القانون الدولى، ومن داخله قانون البحار وقوانين المضايق الدولية، وانتشرت تعبيرات السيادة والاحتلال كما تنتشر النار فى الهشيم. ورغم أن التاريخ حضر بشدة إلا أن أحدا لم يحدد نقطة البداية التى يمكن ساعتها الحكم على الأمور، التى هى فى الظن لا ينبغى لها أن ترجع عن وقت قيام المملكة المصرية فى 1922، والمملكة العربية السعودية فى 1932، أما ما كان قبلها فيمكن أن يذهب كل هوى إلى عهد محمد على أو عصر عمرو بن العاص أو قبل هذا وذاك فى عهد الفراعنة. جرى الانتقاء بشدة مروعة بين أحداث التاريخ وقوانين العالم، ولم يسلم الأمر من وضع الوطنية وقضايا مياه النيل ومقتل الباحث الإيطالى ريجينى على الطاولة. باختصار اختلطت الأوراق بشدة، وكانت فيها روائح انتقامية وشخصية لمعارك ظلت دائما فى سرائر المتحدثين.
الرأى هنا أن القضية سياسية فى المقام الأول، وهى هكذا ترتبط ارتباطا وثيقا بحاضر مصر ومستقبلها، ومن ثَمَّ باتت للأمر ثلاثة أبعاد لا يمكن- ولا ينبغى- للعقل الراجح إلا أن يضعها فى الحسبان، الأول له علاقة بمصر ذاتها بعد ثورتين كما يُقال، وحقيقة الظن أنهما ثلاث ثورات إذا ما اعتبرنا حيازة الإخوان للسلطة ثورة من الطراز الأول، لأنها قلبت الدولة كلها رأسا على عقب. وباختصار فإن ما جرى منذ يناير 2011 لم يكن بالقليل سياسيا وتاريخيا واقتصاديا، وكما أن لكل أمر ثمنا، فإن هناك فواتير كثيرة لابد من دفع ثمنها، والثانى أن العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية فى المرحلة التاريخية الراهنة ذات طبيعة استراتيجية للدولتين، وفى العلاقات الاستراتيجية فإن الحساسية مطلوبة، والعنتريات، كما نعرف من تاريخنا، عادة تقود إلى نتائج غير محمودة، خاصة إذا ما كان لدى طرفى المعادلة بدائل غير متكافئة، والثالث يتمثل فى حالة الجزيرتين، وهنا لابد أن يستقيم التاريخ والقانون ويجيب عن أسئلة مطروحة بإلحاح، فنحن لا نعرف ماذا كان حال الجزيرتين وقت قيام الدولة المصرية، كما لا نعرف كيف كانت ساعة إنشاء الدولة السعودية، ولا أين كانت عندما أرسل العاهل السعودى رسالته إلى وزيره المفوض، ومَن الذى تسلمها من الأخير، وماذا كان رده، وهل سبقت كل ذلك رسائل أو حتى تسجيل مواقف؟
الاعتبارات الثلاثة تدعو جميعا- وبإلحاح- إلى ضبط النفوس والحكمة فى التعامل مع قضية حيوية. وفى مثل هذه الأمور فإن المسار الدستورى مهم، فهو الذى يأخذ الموضوع إلى مجلس النواب، الذى عليه أن يأخذ كل ما سبق فى الحسبان، وأن يقرر- بعد البحث والدرس وجلسات الاستماع للمؤيدين والمعارضين والمتخصصين- ما إذا كان التصويت واجبا، أو اللجوء إلى الاستفتاء ملزما. ولكن ساعتها فإن طرح السؤال المحدد على المجلس أو الشعب سوف يكون واحدا من سؤالين: هل توافق أو لا توافق على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، أو هل توافق أو لا توافق على حيازة المملكة لجزيرتى تيران وصنافير؟ ساعتها ربما لن يكون التساؤل معبرا عن حالة بين مصر والمملكة، وإنما عن الحالة بين مكونات الشعب المصرى.