«الكيمى كيمى كا»

عبد الناصر سلامة السبت 16-04-2016 21:21

فى فيلم «الكِيف» غنّى الفنان محمود عبدالعزيز للكيمياء «الكيمى كيمى كا» بعد أن اكتشف أهميتها فى صناعة عجينة الكيف المخدِّرة، من خلال شقيقه أستاذ الكيمياء، الفنان يحيى الفخرانى، ثم تطور الأمر بعد رواج شريط الأغنية، إلى أغنية أخرى عن القفا، وكان مبرر محمود عبدالعزيز أن الأغانى التى تغزلت فى الشفايف والخدود والرموش كثيرة جداً، إلا أن القفا لم يأخذ حظه من الغزل، على الرغم من أهميته، على حد قوله، بل الأكثر من ذلك أن القفا تتم إهانته كثيراً، بصفة خاصة فى أقسام الشرطة، فصدح بفرقته الموسيقية (يا قفا، يا قفا، يا قفا) فى قالب كوميدى من الطراز الجميل.

تذكرت ذلك الحوار المثير وأنا أستمع إلى الأغنية الوطنية للفنان محرم فؤاد، التى ظهرت على السطح فجأة هذه الأيام، حول جزيرة تيران المصرية، تاريخاً وجغرافيا، رأيت أننا بالفعل أضعنا الكثير من الوقت والجهد مع الشفايف والخدود والعيون السود، وشبشب الهنا أحيانا، وبحبك يا حمار أحياناً أخرى، إلا أن التراث المصرى، والمِلكية المصرية، والتاريخ، والجغرافيا.. كلها لم تأخذ حقها من التدوين الشعرى أو الغنائى، رغم أهميتها للذاكرة، ليس ذلك فقط، بل للوثائق والمستندات الرسمية، بدليل أننا أصبحنا نستعين من بين ما نستعين الآن بأغنية محرم فؤاد ضمن وثائق تيران التى سالت فيها دماء غزيرة، ناهيك عن الأسرى والمفقودين، وأيضاً التكلفة المادية والنفقات العينية على مدى قرون عديدة.

بدا واضحاً أن الأغانى الوطنية يجب أبداً ألا تكون وليدة الحروب أو الأزمات فقط، الأمر فى حاجة إلى إعادة نظر واهتمام طوال الوقت، ما هو دور وزارة الثقافة إن لم يكن هذا الأمر، ما هو دور المؤلفين والملحنين إن لم يكن كذلك، ربما كان تزوير التاريخ سهلاً نثراً، وحتى من خلال الرسائل الدبلوماسية المتبادلة، إلا أن الغناء للسد العالى جعل الحقيقة ثابتة مهما طال الزمن (قلنا هانبنى وآدى إحنا بنينا السد العالى)، كما الغناء لسيناء (رجعت كاملة لينا)، كما الغناء للنيل (يا نيل يا ساحر العيون).

لا يُعقل أبداً أن يحصل القفا على حقه من التوثيق، أو الحمار على نصيبه من الغناء، أو الشبشب على حقه من الغزل، دون الإشارة فى بيت من الشعر أو الزجل مثلاً إلى حلايب وشلاتين، اللتين قد نستيقظ على فاجعة بشأنهما فى حالة ترسيم الحدود الجنوبية، أو قصر المنتزه، وحتى زنقة الستات بالإسكندرية، اللتين أصبحنا نخشى عليهما من ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، أو حتى شارع دمشق بالمهندسين فى حال أى تفاهمات مع الشقيقة سوريا.

قد يكون الطرح غريباً إلا أنه بدا واضحاً أن الزمن كفيل بتغيير أى معالم، كما السياسة كفيلة بالعبث بالتاريخ والجغرافيا معاً، كما أن وسائل الإعلام قد تقع تحت أى نوع من السيطرة هنا أو هناك، فى الوقت نفسه قد تكون شرائط وسيديهات المطربين والمطربات هى الملاذ الأخير للشعوب بمنأى عن الشهر العقارى، أو وزارات الخارجية، أو أساتذة القانون الدولى، مادامت الدماء المسالة لا تحفظ حقاً، ولا شهود الإثبات يصلحون دليلاً.

الدبكة كما التانجو، كما التحطيب، كما الأكلات الشعبية، كما الفنون على اختلاف أسمائها، كما الآثار القديمة، حفظت للشعوب حقوقها وملكياتها الفكرية، وإلا لما أزالت جمهورية الصين الشعبية أخيراً ذلك التمثال التقليد للحارس المصرى القديم أبوالهول، بعد أن أنفقت ما أنفقت على تشييده، بالتالى يمكن أن يكون التسجيل الغنائى الشعرى إحدى أدوات إثبات الملكية فى أزمنة قد لا تفلح معها أو تصمد فيها وثائق المكتبات العالمية أمام هذه المفاوضات أو تلك.

هى دعوة لكل المهتمين بالشأن الثقافى، شعراً ونثرا، دراما وكوميديا، روايات وطرباً، إنتاجاً سينمائياً وتليفزيونياً، موشحات وأناشيد، لنبدأ الحملة من الآن، يسمعها العامة فى التكاتك والميكروباصات بالدرجة الأولى، فى المقاهى والمنتديات، نَقُص من خلالها على أبنائنا وأحفادنا حقوقهم التاريخية، تراث الأجداد من الحبشة والسودان جنوباً، جعبوب وسيوة غرباً، رفح وأم الرشراش شمالاً، قبل كل ذلك تيران وصنافير، شدوان ومجاويش، كل الجزر بلا استثناء، كل المدن الحدودية بلا تمييز، كل الأرواح التى أُزهقت، كل الدماء التى سالت، كل الأسرى الذين عانوا.. باختصار: كل الجهود التى بُذلت للحفاظ على الحدود المصرية على مر التاريخ من كل الاتجاهات، مادامت مناهج التاريخ والجغرافيا التى تلقاها السابقون واللاحقون، على مدى عقود بل قرون عديدة، لم تعد كافية لإثبات الملكية لدى أولى الأمر، وها قد حان دور الشعوب فى إثباتها، بل الذود عنها.