الشمس والحداية.. في جمعة الأرض

جمال الجمل الجمعة 15-04-2016 23:50

(1)

مالت الشمس عن كبد السماء قليلاً، ولاح قرصها من بعيد فوق المباني.. كأنه منبثق منها إلى السماء، أو عائد إليها بعد طواف. ساعة العصاري تهل بملامحها الذهبية المشرقة، والسماء متجلية في صفاء، مُطَرِّزةً بعض نواحيها المترامية بسحائب رقاق، والهواء يتخبط بين الأشجار فتُرجِعْ أوراقها أنينه ونحيبه.
في السماء دارت حدآت حيارى، وعلى الأرض انطلقت جماعات من الشباب يؤنسون الطريق، مشتبكين في حديث واحد.. «الأرض والعرض»
(من وحي استهلال نجيب محفوظ في روايته «المنشورية» القاهرة الجديدة)


(2)
* ممنوع يا أفندي.. رايح فين؟
- ماشي في الشارع يا ابني.
* ممنوع.. امش من الناحية التانية.
- يا ابني أنا داخل الميدان.. مش تيران.
لغط وأصوات مرتفعة، وضابط يأتـي لحسم القضية: اتفضلوا من هنا، روحوا أي مكان تاني.. مش عاوزين استفزازات، لمصلحتكم ومصلحة الجميع.
- انتو بتمنعونا نمشي في شارع داخل عاصمة بلدنا، ومش متضايقين إن إسرائيل هتمشي على دم شهداءنا.
* الكلام بقى اللي مش هييجب همه.
يتدخل ضابط آخر: احنا مصريين زيكم وبننفذ تعليمات التأمين.. البلد مش حمل قلق.
* يعود الأول للحديث باستفزاز: وانت بقى ياشيخ لو دخلت جوه، هتغير، الوضع وتسقط النظام؟
- يا ابني أنا مش جاي أسقط النظام.. أنا جاي أفهمه غلطه بس.
* فهمه في حتة تانية.
يتكاثر الشباب بالعشرات، فيهدد الضابط باستخدام أساليب أخرى، لأن الوقفة دي هتتطور وتؤدي لموقف مش كويس.

(3)
عند مدخل آخر، كان الوضع أكثر سخونة، وقبل أن أقترب من الحاجز بأمتار، حدثت ضجة وتدافع، وفوجئت بعشرت الشباب يهرولون بقوة في الاتجاه العكسي، ودفعني أحدهم في كتفي دون أن يقصد، وفي محاولتي لتفادي السقوط، تعثرت في حافة الرصيف، وسقطت بالفعل، ظللت جالسا مكاني على الرصيف لبعض الوقت، وبعد أن تم إبعاد المتظاهرين لمسافة، قمت ناحية الحاجز الحديدي والبشري لجنود الشرطة، كنت مصمما على المرور كما قلت لأصدقائي ليلة أمس، كنت أريد أن أفعل ذلك لأكتب عن تجربة واقعية مهما كان ثمنها، جملة حقيقية أشعر بها.. هذه الجملة هي: انتو بتمنعوني من المرور في شارع مفتوح داخل عاصمة بلادي، وبتسمحوا لإسرائيل تعدي على دماء شهداءنا؟!

(4)
كان هناك إحساس مختلف بمنظر الهراوات، ومعنى الدروع، وآثار الغاز المسيل للدموع، ووقفة طوابير الجند في الشوارع، وفي المشاهد التي حضرتها لم يكن الهم الذي يسكن القلوب والأذهان هو هم السلطة، ولم تكن الهتافات على اللسان: الشعب يريد إسقاط النظام... كانت الأرض التي يحميها شعب أعزل، بدلا من محتكري القوة وحاملي السلاح، وكانت الجملة التي أريد أن أوصلها للجميع هي نفس الجملة البسيطة: كيف تمنعوننا من المرور بحرية في شوارع بلادنا، ولا تخجلون عندما تعطون للعدو الحق في إيذاء الشهداء في نومهم، وإزعاج أرواحهم وهي تحلق حول مكان استشهادهم فوق صخور تيران؟

(5)
في طريقي للعودة بعد الإعياء والإنهاك، يبدو أن أحدهم تعرف على، لم يكن معي موبايل، فقد خرجت بلا أي شىء إلا قليل من المال وزجاجة ماء، ولما وصلت إلى البيت وجدت اتصالات متكررة من رقم غريب، ولما اتصلت به باغتني ضاحكا: انت كنت في المظاهرات النهارده بتعمل إيه؟.. مش خايف حد يزقك يكسرك، وللا حاجة كده من حوادث التدافع العفوية.. أنت راجل كاتب وتقدر تقول كلمتك وانت معزز مكرم في بيتك، ووجدت رسائل متنوعة بهذا المعنى حتى من بين الأصدقاء والأحباء الذين لا أشك في محبتهم وصدق نصيحتهم.
لكنني كنت أريد أن أكتب بالموقف والمخاطرة هذه العبارة التي تأخذ شكل السؤال الاستنكاري: عاوزين تمنعونا من المرور بحرية في شوارع بلادنا، ومش مكسوفين إنكم سمحتوا لإسرائيل تعدي على دم شهداءنا في تيران؟!

(6)
أما ما لا أتمكن من قوله لواحد من هؤلاء، لأنه كان مشغولا في أوهام الجلالة، فهو: يا سيد الحق، عندما حدثتك السيدة الوالدة (رحمة الله عليها) وأوصتك أن تعطي كل ذي حق حقه.. هل كانت تقصد تيران فقط؟... ألم تقل لك إن التظاهر حق لنا؟!.. ألم تقل لك إن الحرية حق لنا؟!.. ألم تقل لك إن الكرامة حق لنا؟!.. ألم تقل لك إن الأموال التي نهبها الفاسدين حق لنا؟!.. ألم تقل لك إن تقرير مستقبلنا ومصيرنا وحدود أرضنا حق لنا؟!... فلماذا يا سيد الحق أعطيت الغريب، وتواصل المماطلة في حقوقنا؟!

(7)
ولنا عودة، فالقضية أخذت منحى جديدا، قد يطول، فاستعدوا، لأننا نستعد.


جمال الجمل
tamahi@hotmail.com