ظل الخطأ الأبرز للرئيس الأسبق محمد مرسى أنه لم يخرج من عباءة جماعة الإخوان، ولا منطقها في التفكير، وتصرف طوال الوقت باعتباره عضواً في جماعة الإخوان وليس رئيساً لمصر، ظل يفقد مساحة تأييده الكبيرة التي جلبته لمقعد الرئاسة بأصوات مَنْ هم خارج الجماعة، حتى بقى محصوراً مع تياره، فيما باقى تكوين المجتمع متوحد على هدف خروجه، أو على الأقل انتخابات مبكرة.
■ ■ ■
لا وجه للتشابه على الإطلاق بين جماعة الإخوان التي جاء منها مرسى والقوات المسلحة التي جاء منها الرئيس عبدالفتاح السيسى، الإخوان تنظيم حزبى، غير مُجمع عليه، له خصوم ومنافسون، ومشروع خاص، وأجندة غامضة، بينما القوات المسلحة المؤسسة الأهم للمصريين تاريخياً، تخص الجميع، أجندتها وطنية، وليست في تنافس مع أحد، ولا يوجد مصرى طبيعى يمكن أن يكون في خصومة معها.
لكن التشابه إن كان معدوماً بين الجيش والإخوان، فإنه حاضر بين السيسى ومرسى في منطقة عدم قدرة كل منهما على مغادرة ما كان فيه قبل أن يجلس على مقعد الرئاسة، فمثلما ظل محمد مرسى يتصرف باعتباره كادراً في جماعة الإخوان، يتصرف الرئيس السيسى باعتباره قائداً للجيش، وربما رئيساً للمخابرات الحربية، وهو ما ينعكس على أدائه الذي يميل للتكتم والسرية حتى في القضايا التي تخص المصالح المباشرة للشعب، وعدم التفاته كثيراً هو وإدارته للدستور وأهميته باعتبار أن القائد في جيشه أو كتيبته أو وحدته صاحب صلاحيات كبرى في إطار نظام القوات المسلحة، ولا يراجعه سوى المستوى الأعلى منه، وهو ما ينعكس كذلك على إحساسه بأن الإعلام لابد أن يعكس وجهة نظره فقط، وكأنه كتيبة أو سلاح تابع لقيادته، كما غير ذلك من المؤسسات، حتى الشعب نفسه لابد أن يثق فيه بشكل مطلق، دون ضجيج، وطبعاً دون محاسبة، تماماً كما يثق الجنود في قائدهم ولا يناقشونه في قراراته وإنما ينفذون وفقط، ولا يقولون سوى «تمام يا فندم».
■ ■ ■
قبل عامين، وحين كان السيسى مرشحاً للرئاسة، أجرى عدة حوارات أظهر فيها الكثير من جوانب شخصيته، وأهمها عبارات كثيرة مثل «عملت كده في الجيش ونجحت» بما يعنى أنه يعتقد أن نجاحه في الجيش بالضرورة سينعكس على نجاحه في مصر، وبالتالى فأدواته كقائد جيش لابد أن تكون هي ذاتها أدواته كرئيس دولة «دستورية»، وبالتالى فالشعب لابد أن يكون مثل الجنود حتى يستطيع السيسى تكرار ذات التجربة بذات النجاح.
لكن في وسط هذه الحوارات خلال حملته الانتخابية ردَّ على أسئلة حول إن كان أجرى تفاهمات قبل أن يتخذ قراراً بالانحياز للمطالب الشعبية لإقصاء محمد مرسى، فقال: «القائد مبيستأذنش حد»، وهى جملة تعكس بوضوح ذهنية السيسى كقائد للجيش، لكن مخاوفى المبكرة من هذه الجملة طرحتها في وقتها في مقال بعنوان: «من قائد مبيستأذنش.. إلى رئيس يستأذن»، وهذه المخاوف كان موجزها أنه إن كان من الطبيعى ألا يستأذن القائد العسكرى، وإن كانت مهمته تفرض عليه مشاورات ودراسات وتقديرات استراتيجية قبل اتخاذ القرار على نحو ما يجرى في القوات المسلحة منذ إعادة مأسستها بعد هزيمة 67، فإن الرئيس، وبحكم الدستور والقانون والمنطق السياسى، لابد أن يستأذن وليس في ذلك أي عيب، لأنه ترشح للرئاسة وفق دستور يحدد بوضوح طبيعة مهمته وحدود صلاحياته، وحدود صلاحيات كل مؤسسة.
■ ■ ■
في تلك اللحظة التي يواجه فيها الرئيس غضباً ليس هيِّناً من قطاعات كثيرة في الشعب «ليست كلها مسيسة» من تنازله عن جزيرتين اعتقد المصريون طويلاً أنهما من ترابهم الوطنى الذي دافعوا عنه بالدم، جدير بنا أن نطرح أننا كما نحتاج إلى ترسيم حدود بحرية مع الجيران، نحتاج إلى ترسيم حدود واضح بين الرئيس والشعب، لأن مباغتة المصريين بالتوقيع على اتفاق تيران وصنافير بعد 8 أشهر من المفاوضات السرية بعيداً عن أعين الرأى العام لا يمكن ترجمته سوى أن الرئيس الذي يؤدى مهمة دستورية في رعاية مصالح الشعب لا يرى الشعب مالك هذه المصالح في المعادلة، ولا يعتبره صاحباً للحق، ولا مرجعية للحكم، ولا يعتبره شريكاً حتى في القرار، وإنما يراه كتيبة عريضة تحت قيادته، لا خيار أمامها سوى قول «تمام يا فندم»، ولذلك عقد حواراً لم يستمع فيه، ورد على تساؤلات بقوله: «مش عاوز كلام في الموضوع ده تانى».
■ ■ ■
بين الرئيس والشعب عقد عمل اسمه «الدستور» يستحق أن نعيد له الاعتبار، وسواء انتهت هذه الأزمة بذهاب الجزيرتين أو عودتهما للخريطة الطبيعية، فالأهم أن توحد المصريين على هدف ترسيم الحدود بين الرئيس والشعب، لأن كل معاناتنا طوال الستين عاماً السابقة بسبب غياب هذا الترسيم، وهو هدف لا أظن أنه مُختلَف عليه حتى من الرئيس نفسه، لأن ترجمته في الممارسة أن القائد قائد والرئيس رئيس، و«مصر- حسب دستورها- دولة مش معسكر».