هى علامة فارقة فى تاريخ الحضارة الإنسانية، كما أنها واحد من أبرز المعالم الثقافية على امتداد كل عصور التاريخ، إنها تقف جنبًا إلى جنب مع الآثار الكبرى فى مسيرة الحضارة ولكنها تتفوق عليها جميعًا لأنها كانت منارًا للمعرفة ومركز إشعاع فكرى وثقافى وعلمى وتعليمى اهتدت بها البشرية منذ عشرات القرون، إلى أن جرى حرقها واختلفت الآراء فى هذا الشأن وتبادلت القوميات والديانات الاتهام، ولكن محكمة التاريخ العادلة لم ترجح صفة الفاعل الذى اختلف حوله المؤرخون حتى عادت «مكتبة الإسكندرية» إلى الظهور قرب نهايات القرن العشرين بمبادرة من مؤرخ كبير وأستاذ مرموق فى جامعة الإسكندرية، وقد دعم تلك المبادرة وزير التعليم حينذاك الذى أبدى اهتمامًا بهذا الشأن ودفع إلى المضى فيه، والاثنان حيّان أطال الله فى عمرهما، وقد تحمس الرئيس الأسبق «مبارك» والسيدة قرينته لهذا الأمر، وبدأت حملة الاكتتاب لتشييد ذلك الصرح الذى أصبح أهم معالم «الإسكندرية»، بل ومن أهم المعالم الثقافية على المستويين الإقليمى والدولى، ومازلت أتذكر يوم الاكتتاب الأعظم، حيث كان الرئيس الأسبق «مبارك» فى مدينة «أسوان» وكنت هناك بحكم عملى معه بمؤسسة الرئاسة وتوالت علينا مكالمات من مكاتب الملوك والأمراء والرؤساء فى العالم العربى يلتزمون فيها بأرقام أوفوا بها جميعًا تقديرًا لـ«مصر» وتكريمًا لعودة «مكتبة الإسكندرية» من جديد، ومن النوادر يومها أننا تلقينا اتصالًا من مكتب الرئيس العراقى الراحل «صدام حسين» يسأل فيه سكرتيره عن أعلى رقم جرى للتبرع، فأبلغته أنه 20 مليون دولار من حكيم العرب الراحل «الشيخ زايد»، فقال لى: إن الرئيس العراقى قرر أن يكون هو أعلى المتبرعين قيمة، ولذلك فإن «العراق» سوف يقدم 21 مليون دولار إسهامًا فى «مكتبة الإسكندرية»، ووقتها تقدمت بيوت الخبرة العالمية للمشاركة فى أعمال التشييد والبناء وفقًا للطرز المعمارية الحديثة وحتى يكون مبنى المكتبة تحفة خالدة وفريدة من نوعها، ولقد شاركت الخبرة المصرية متمثلة فى بعض مهندسينا الكبار، أذكر منهم الدكتور «ممدوح حمزة»، مهندس الإنشاءات والسياسة فى وقت واحد!، وقد ظللنا نتابع «مكتبة الإسكندرية» فى مراحل بنائها وتأسيسها وتحديثها على أعلى المستويات العالمية فى عصرنا، ويكفى أن بها مطبعة تطبع كتابًا كاملًا فى دقائق معدودة، وتقود المكتبة شخصية دولية معروفة تتمثل فى الدكتور «إسماعيل سراج الدين» بخبراته فى المؤسسات الدولية ودراساته الأكاديمية وأبحاثه الفكرية، ولقد مرت على المكتبة شخصيات ثقافية مؤثرة، أذكر منها الدكتور «يوسف زيدان» ذلك المفكر الذى يثير جدلًا حوله بما يطرح من آراء جديدة وأفكار غير مسبوقة، والأستاذ الدكتور «خالد عزب» مؤلف الكتب الرصينة الذى أنطق العمارة حتى تحدث الحجر! وقد شهدت تكريمه فى «المغرب» فى العام الماضى بحصوله على أفضل كتاب فى العالم العربى، وما من مرة زرت فيها المكتبة إلا وخرجت مفعمًا بالرضا مبتهجًا لوجود صرح لم تتراجع قيمته ولم تتدهور مكانته فى وقت تعانى فيه معظم مرافق الدولة ومؤسساتها نتيجة ما يجرى حولها ويحيط بها، إن «مكتبة الإسكندرية» ليست مجرد مكان يضم كتبًا صماء ينتظر الباحثين والقراء ولكنها قبل ذلك وفوقه هى مؤسسة توثيق من الطراز الأول، صدرت عنها مجموعات رائعة تدور حول الشخصيات المصرية العظيمة وحكام البلاد فى القرنين الأخيرين، فضلًا عن الملوك والرؤساء والتأريخ للعائلات الكبيرة والأسر العريقة فى المجتمع المصرى، وقد انهالت على المكتبة عشرات الكتب النادرة مهداة من شخصيات آمنت بدورها وقدرت مكانتها حتى وصلتها نسخة أصلية من كتاب «وصف مصر» إهداء من ابن «مصر» البار الراحل «د. بطرس بطرس غالى»، كما حرص كثير من المفكرين وكبار المثقفين والأدباء والشعراء على التوصية بمكتباتهم الشخصية إهداءً لذلك الصرح الثقافى العالمى الكبير، ويهمنى أن أسجل هنا ملاحظتين جديرتين بالاهتمام:
أولاً: إن المكتبة- رغم وجود رئيس الجمهورية على قمة مجلس أمنائها، واستقلال ميزانيتها- لم تحظَ بالاهتمام الشعبى العام الذى يجب أن تناله مثل هذه المؤسسة الثقافية والتعليمية الكبرى، نعم.. تتوافد عليها أفواج من طلاب المدارس والجامعات من مختلف أنحاء البلاد ولكنها لم تصل بعد إلى الدوائر العلمية للجامعات ومراكزهم البحثية، فالمنتظر منها أن تكون قاطرة للتقدم تشد المجتمع وراءها وتفتح أمامه أبواب المعرفة وطاقات النور، ورغم سيل المطبوعات الرائعة إلا أنها مازالت بعيدة عن متناول الملايين من شبابنا وليس ذلك ذنب المكتبة ولكنه المناخ الثقافى الخانق الذى لا يسمح بسيولة حقيقية لتداول الأفكار والمعلومات والرؤى رغم أننا نعيش فى عصر التقدم التقنى الكاسح فى وسائل الاتصال وتكنولوجيا التواصل التى تبدو متاحة على نحو غير مسبوق.
ثانيًا: إن المكتبة- بتاريخها ومكانتها وإسهاماتها- يجب أن تكون ممثلة فى أعلى المستويات، بل إننى أراها كمؤسسة هى الأجدر بأن تكون المكتب الاستشارى لرئيس الجمهورية فى النواحى الفكرية والثقافية والتعليمية، وذلك لتعظيم الفائدة من ذلك الصرح الفريد الذى تستأثر به «الكنانة»، فالسلعة الثقافية هى أعز ما نملك، كما أنها أغلى صادرات الدولة المصرية عبر تاريخها الحافل بأسباب التنوير وريادة النهضة.
إنه كلما تكالبت علينا أسباب الإحباط وعوامل الضيق ومبررات القلق، فإننا يجب أن ننظر إلى ما فى أيدينا من «أصول ثابتة»، ومن بينها «مكتبة الإسكندرية».
Twitter:DrMostafaElFeky