(1)
أعرف أن مصر (وربما المنطقة كلها) مشغولة بمفاجأة جزر التيران، وهي بلا شك مفاجأة «بايخة» من سلطة لم نكن ننتظر منها ذلك، لكنني لا أريد أن أخرج عن إيقاع الاتزان الذي أحدده لنفسي في معالجة القضايا بلا صراخ، فأنا ممن يؤمنون أن الصوت الصارخ يعبر عن موقف ضعيف، لذلك أميل دائما إلى القوة الناعمة.. الهدوء مع الحسم، وقد تعلمت من لعبة الشطرنج أن أنقل قطعتي على الرقعة، ثم أنتظر نقلة الطرف الآخر، فمن العبث أن يدفعك حماسك لحركتين متتاليتين، ولهذا عدت لتصفح رسائل القراء الأعزاء، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولًا.
(2)
أرسل لي القارئ العزيز مجدي قناوي، مجموعة من الخواطر السياسية التي تترواح بين السخرية الشديدة من الأوضاع التي نعيشها بعد الثورتين، وبين العمق الفلسفي للعلاقة بين السلطة والشعب، وفي إحدى رسائله كتب مجدي: لن ننتصر على السلطة ونسترد حقوقنا إلا بالفهم ثم بالوعى، السلطة تنتصر علينا لأنها تسبقنا بخطوة، وتلك الخطوة هي فهم الأمور بشكل واقعي، وفهم موازين القوى المؤثرة، وإذا أردنا أن ننتصر يجب علينا أن نفكر كيف نختصر هذه الخطوة، لنسبق السلطة بتفكيرنا وترتيبنا، وهذا أهم مطلب في القيادة.
(3)
اللطيف في رسائل مجدي أنها خواطر حرة في اتجاهات متباعدة، تدور كلها حول الهم العام، ولذلك لن أنشرها كمقال مستقل، بل بقدر من التصرف والتداخل والتفاعل حسب اتفاق المشاركة في الكتابة، وهذا أجمل ما كنت أطمح إليه في فكرة الكتابة الجماعية، وأعود لرسالة القارئ العزيز الذي يحاول تطبيق فكرته على ما حدث من نتائج في ثورة يناير، فيقول: كانت كل التحركات بعد خلع مبارك تأتى من المجلس العسكرى.. هو من يقود الأمور، والاتجاهات، وموعد «النقلات» من محاكمات، وتشريعات، واستفتاءات، وانتخابات، بينما الشعب يجرى خلفه، لا يستطيع القيادة ولا الريادة، وبالتالي لم يكن لدينا إمكانية الفعل، فاكتفينا بردود الأفعال.
(4)
الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» لديه اجتهادات مهمة في فلسفة السلطة، منها مثلاً أن السلطة دائما لديها قدرات ذاتية، ودوافع، وإمكانيات، لتوليد أساليب عنيفة وغير عقلانية، لتأكيد سلطتها.. مثل تصنيع الخوف، وتضخيم الفزاعات، وتقديم الإغراءات، وتوفير الذرائع، ويرى فوكو أن السبيل الممكن الذي يأخذنا إلى تحجيم هذه السلطة، ووضعها في حدود وظيفتها، لن يتيسر للشعب إلا عبر فهم تلك الأساليب السلطوية، وتفكيكها، وتغيير مرجعية التفكير، بحيث تكون لصالح الجموع، وليس حسب تقديرات من يحكم، أو حسب أنصبة القوة الغاشمة التي تمارس سطوتها من أجل تحقيق مصالحها هي.
(5)
علينا إذن أن نفهم أولاً، قبل أن نتكلم، أو نتحرك، لأننا بدون الفهم قد نتكلم بما تريده السلطة، وقد نتحرك بالإيعاز، وبالتحكم عن بعد دون أن ندرك، لابد أن نطالب بتداول المعلومات، ونتعرف على حقيقة الأوضاع في مصر، وعلى السياق الإقليمي والدولي الذي تتفاعل فيه الأحداث، وبعدها نصدر الأحكام والتقييمات.
(6)
أعتقد أن قضية تيران ليست بعيدة عن المقال، لأنه مقال في المنهج والمفهوم، أكثر منه مقال في الوقائع والإجراءات، وأترك للعزيز مجدي تطبيق المثال على ثورة يناير كما اختار، فيقول: في 25 يناير 2011 لم نكن نفهم الكثير، كانت الصورة في أذهاننا مشوشة، والسياق مجتزأ، والرؤية قاصرة زمانياً ومكانياً.. كانت ثورتنا (حسبما أراها الآن) مجرد صرخة ضد الظلم، ولكننا لم نكن نفهم (بفعل التغييب) الدور الذي يمكن أن يقوم به التخطيط الخبيث، والتوجيه عن بعد، والإعلام الممنهج الذي يعمل للتضليل والتضبيب وإرباك المشهد، وليس للتوضيح والتوصيل وكشف السياق العام.
(7)
أظن أن حسنى مبارك في بداية الثورة، كان يسترخي داخل قصره، يضحك ملء شدقيه من أوهام «القلة المندسة»، لأن المعلومات التي قدمتها له الأجهزة، تحدثت في البداية عن «شوية عيال خرجوا في مظاهرة مثل كل مرة وهنلمهم»، لكن مبارك خسر سلطته، لأنه خسر قبلها الأرقام الواقعية، وحقيقة التوازنات على الأرض، ومقاييس القوى الموجودة على الساحة، لقد خدعته قوة أخرى تريد إزاحته، للبدء في ترتيبات جديدة، تتكشف لنا يوماً بعد يوم، لايهم إن كان الذي ينفذها للقوى الأكبر: مرسي أم عبده، فالكرسي بلا رؤية وطنية، لن يكون أبدا لصالح البلاد والعباد، بل سيظل وكيلاً ينفذ إرادة القوة الأخطر التي تملك إزاحته، والشعب لم يثبت بعد أنه قادر وحده على هذه المهمة، حتى يحترم الحكام إرادته.
(8)
القصه باختصار أننا في مباراة بين فريقين: (السلطة في مواجهة الشعب)، وكل فريق لديه أدواته ونقاط قوته، السلطة تملك أدوات القمع العنيفة، وتشريع القوانين التي ترجح كفتها، والمؤسسات الداعمة، والأهم أنها مركزية، وموحدة تحت إمرة شخص واحد، أما الشعب فلا يملك إلا قوة الجموع والحشود (وهي غير مجدية إلا غذا تركزت حول رؤية وليس حول شخص)، ولذلك تلجأ السلطة دائما إلى نفس اللعبة في كل زمان، وهى أن تمنع الشعب من التعرف على قوته (الحشد) ومن امتلاك بؤرة هذه القوة (الرؤية).. لقد أحرزنا هدفاً في مرمى السلطة في 25 يناير، وكان العالم كله شاهداً على المباراة، لذلك لم يعد بوسع السلطة أن تغش في الملعب المذاع على الهواء، فاستوعبت هزيمتها المؤقتة بهدف، وسعت إلى تعويضه، وحاصرت الشعب في منطقته، منعت الحشد الجماهيرى، ومارست الضغط في كل مكان على أي من يمتلك الكرة (الرؤية والحشد)، وأحرزت في مرمى الثورة الكثير من الأهداف، لكن الأمل في الفوز لم ينته، فالمبارة لا تزال مستمرة، وخائن من لا يقاتل من أجل انتصار فريقه، حتى في الوقت بدل الضائع.
(9)
أنصر فريقك... #تيران_لا
............................................................................
المقال بالمشاركة مع القارئ العزيز مجدي قناوي
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com