فضيلة الاعتدال السياسى

جمال أبو الحسن الأحد 10-04-2016 21:14

تُصادفك فكرة الاعتدال كثيراً فى التراث الإنسانى، خاصة فى منابعه الأولى. الكثير من الرجال الحُكماء وجدوا أن هذه الفضيلة الغالية تُمثل البوابة الذهبية للسعادة. سعادة الإنسان، وسعادة المجتمع. الاعتدال هو الطريق الوسط بين ضدين متطرفين. هو الخيارُ الأسلم. الفضيلة المُثلى. الطريقة الأفضل لتعيش حياة هانئة ومُثمرة. فلاسفة الإغريق رأوا أن الشجاعة هى فضيلة وسط بين الحماقة والجُبن، تماماً كما الكرم بين البخل والسفه.. وهكذا.

الطريق الوسطى فكرةٌ لم تغب عن ذهن فلاسفة الشرق. تكاد هذه الفكرة تكون أساس الانطلاق فى منظومة «بوذا» الروحية. بالنسبة لبوذا، «الطريق الوسطى» هو حالة توازن بين الانغماس فى الملذات من ناحية، والتقشف بإماتة الذات من ناحية أخرى. البوذية فى جوهرها هى إرشادات لكيفية الوصول لهذه «الحالة الوسطية» فى التعامل مع الحياة. الاعتدال فكرةٌ حاضرة بقوة فى الحضارة الإسلامية أيضاً. الأمة الإسلامية ذاتها وُصفت فى القرآن بأنها «أمة وسط». إن كان من فكرة جامعة تنتظم سيرة الرسول الكريم (ص)، فهى الاعتدال والوسطية، فى الدين كما فى الحياة.

اعتناق الاعتدال فى السياسة أصعب من ممارسته فى غيرها من شؤون الحياة. السياسة، بالتعريف، مبارزة حامية بين أفكار ومصالح متضاربة. المواقف القصوى تكون فى أحيان كثيرة أفضل طريق للدفاع عن هذه الأفكار والمصالح. هى أيضاً سبيل لحشد الأنصار والمؤيدين. الناس، بالطبيعة، يميلون لمن يُعبر عن مشاعرهم ومصالحهم بصورة مُباشرة صريحة (وأحياناً فجة). هم لا يعبأون كثيراً بمن يتبنى الاعتدال منهجاً وسبيلاً. بل يتشككون فى حماسه وقوته فى التعبير عن الفكرة. فى الديمقراطية التى ازدهرت فى أثينا قبل 2500 عام، كان هناك دوماً مجالٌ واسعٌ لأصحاب المواقف المتطرفة. بل إن الديمقراطية نفسها، كفكرة وممارسة، ارتبطت من البداية بالمهارات البلاغية والخطابية للسياسيين وقدرتهم على استمالة الأنصار. هذا النوع من الديماجوجية والشعبوية كان مسؤولاً - جزئياً على الأقل - عن توريط أثينا فى معركة خاسرة طويلة مع إسبرطة، انتهت باندحار الأولى وهزيمتها.

على أن غياب الاعتدال كُلياً عن ميدان السياسة كفيلٌ بتحويله إلى ساحة لصراع الديكة. مُباراة صفرية بين أفكار لا تقبل القسمة أو المُساومة. صراعٌ ضار لا محل فيه للحلول الوسط، ولا مكان فيه للعقلانية والرشادة. الأخطر أن تنتقل هذه الحالة إلى المُجتمع، فنرى - كما نُلاحظ فى مصر اليوم - مشهداً يقترب من «الهستيريا الجماعية» والصراخ المستمر من كل الاتجاهات.

السياسةُ المصرية لم تكن فى أى وقت ساحة للاعتدال. تقفز على الذهن على الفور شعارات رفعها الحزب الوطنى (القديم) مثل «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، وكذا برامج سياسية قُصوى تبنتها التيارات الرئيسة فى مصر، كالإخوان المُسلمين، ومصر الفتاة، والأحزاب الشيوعية. ليس خافياً أن هذه البرامج والشعارات شكلت معاً «البيئة السياسية» الحاضنة لـ «يوليو 52» والأيديولوجية الناصرية التى تفننت هى الأخرى فى ابتداع المواقف السياسية القُصوى فى الساحتين الداخلية والخارجية على حد سواء.

على الجانب الآخر، كان المعتدلون دوماً الفئة الأقل. ظل تأثيرهم، مع ذلك، باقياً وحاضراً. نتحدث كثيراً عن دور محمد عبده فى التبشير بفكرة الوسطية والاعتدال الدينى. واقع الأمر أنه كان من أعلام مدرسة الاعتدال السياسى أيضاً. شارك الرجلُ فى الثورة العُرابية فى شبابه حتى زُجّ به فى السجن، وقاسى النفى والتشرد. بمرور السنين، وصل إلى قناعة بأن هذا الطريق لم يدفع البلد فى اتجاه أفضل. كرّس السنوات الأخيرة من حياته للدفاع عن إصلاح تدريجى، حتى لو جاء هذا الإصلاح بالتعاون مع المُعتمد البريطانى «كرومر»!

ورغم أن الاعتدال لا يبدو خياراً مُغرياً فى السياسة المصرية، إلا أن كل تقدمٍ حققته مصر تَولّد عن مواقف معتدلة، لا عن شعارات قصوى. المعتدلون هم من وقّعوا مُعاهدة 1936 لتحقيق جلاء تدريجى وجزئى للقوات البريطانية عن مصر. هم من أدركوا خطورة التورط فى مُساندة دول المحور فى الحرب العالمية الثانية، وقاوموا توريط مصر فى حرب 1948. المعتدلون هم الذين تصوروا حلاً سلمياً للصراع مع إسرائيل بعد ثلاثين عاماً من الصراع. هم من دافعوا عن هذا الحل وجعلوا منه واقعاً سياسياً غيّر المنطقة برمتها. المعتدلون هم الذين رأوا خطورة اعتداء صدام حسين على الكويت، وضرورة مُساندة الخليج مساندة كاملة فى مواجهته. هم الذين اقترحوا استعادة التعددية الحزبية، ولو شكلياً. هم من دافعوا عن إعلام نصف مفتوح، وعن اقتصاد نصف حُر، وعن دولة نصف مدنية. هذه «الأنصاف» غير المكتملة هى التى جعلت من مصر كياناً يختلف - مثلاً - عن سوريا والعراق؛ صاحبتى السبق فى توليد المواقف القصوى والترويج لها وابتزاز الآخرين بها. هذه «الأنصاف» هى التى جعلت من مصر، لعقود، دولة «نصف مفتوحة».

فى المُقابل، نجد أن المواقف القصوى جرّت مصر إلى صراعات لا طائل من ورائها. أهدرت ثرواتها جرياً وراء سرابات شعبوية بلا عائد فعلى. عزلتها عن عالمها باختراع مؤامرات وأعداء فى كل مكان. رغم ذلك، وجدَتْ هذه المواقف دوماً من يُهلل لها ويدافع عنها ويدفع بها. صادفت هوى لدى الجمهور قبل أن تكشف الأيام عن بؤسها وتهافتها الشديد.

الاعتدال ليس أيديولوجية أو فكرة سياسية بعينها. هو منهج فى تناول كل المواقف. طريقة فى التعبير عن أى فكرة أو موقف سياسى. جوهر الاعتدال السياسى هو: الرشادة فى مُعالجة الأمور. النأى عن المُغامرات المُكلفة. التقدير الحقيقى للقُدرات والإمكانيات من دون أوهام. التحرك فى إطار الممكن. التحسّب من «الكلام الكبير» والمُزايدات. صياغة الأهداف المعقولة. التخلى عن ادعاء امتلاك الحقيقة المُطلقة أو الحل السحرى.

لا يخفى على أحد أن الوضع فى مصر اليوم بالغ الدقة والتشابك. وإن كان لى أن أهمس فى أذن جميع أطراف المعادلة السياسية، حُكماً ومعارضةً، لقُلت: عليكم بالاعتدال..عليكم بالاعتدال..«اعتدلوا» يرحمكم الله!.

gamalx@yahoo.com