قولوا لعين الشمس ما تحماشى

شريف عارف الأحد 10-04-2016 21:11

أجد نفسى عند قراءة خبر استشهاد أحد أبناء مصر الأبرار على يد الإرهاب الغاشم مدفوعاً إلى البحث فى التفاصيل، فكل قصة من بين هذه القصص الإنسانية تستحق البحث والدرس.

أتوقف أمام حديث الأم المكلومة والأب الصبور على قضاء الله، وأهل القرية الذين خرجوا فى وداعهم الأخير لابنهم. أرقب الجنازات التى تتقدمها نعوش حاملة أطهر شباب مصر إلى مثواهم الأخير، وإصرار أب على أن يحمل ما تبقى من أشلاء جسد ابنه الشهيد، حتى لو كان مجرد أصبع من يده!

فى كل واقعة أنظر إلى عبقرية المصريين فى موروثهم الحضارى والإنسانى، عند الاحتفال بالأفراح والأحزان معاً، وهم يودعون أبناءهم فى الزيارة الأخيرة، وهم يعلمون أنها ربما تكون الأخيرة فعلاً.. وكأنهم يرددون: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى»، وهى الأغنية التى جرت عادة المصريين على ترديدها فى وداع العزيز الغالى..

«قولوا لعين الشمس ما تحماشى» لم تكن هى الأغنية التى أبدع كلماتها الشاعر الكبير مجدى نجيب، ولحنها عبقرى الموسيقى بليغ حمدى، بل إن الجملة مجهولة المصدر كانت مصدر الإلهام لكثير من الشعراء، ولم يُعرف حتى الآن مصدرها الحقيقى، إلا أنها ترددت لأول مرة فى أهم جريمة شهدتها مصر فى مطلع القرن الماضى.

ربما كانت «جريمة» سابقة لعصرها، عندما أقدم الشاب القبطى إبراهيم نصيف الوردانى على قتل بطرس باشا غالى، وأمطره بعدة رصاصات أردته قتيلاً، فى 20 فبراير عام 1910.

السبب المباشر أن «غالى» صادق على أحكام محكمة دنشواى بإعدام 6 فلاحين مصريين، قتلوا جنودا بريطانيين كانوا قد قتلوا فلاحة مصرية أثناء صيدهم الحمام.

أما السبب غير المباشر.. فقد كان هناك تنامٍ فى الحركة الوطنية المصرية تحت شعار جديد هو «مصر للمصريين»، وبالتالى أصبحت سياسات بطرس غالى، شديدة الولاء لبريطانيا، مثارا لنقمة الوطنيين المصريين.

دعونا من تفاصيل الجريمة، ولننظر إلى السبق فيها وفكر المنفذ وتوابع الجريمة نفسها، فـ«الوردانى» شاب مصرى أرسلته أسرته إلى أوروبا فى مطلع القرن الماضى لدراسة «الصيدلة»، وهناك تعرف على جماعة سياسية كانت تؤمن بفكرة «الهدم لإعادة البناء»!.. أى ببساطة أن الحل فى أى نظام ليس إصلاحه، ولكن العمل على هدمه لإعادة بناء نظام جديد مرة أخرى على أسس صحيحة.. هكذا آمنوا!

الفكرة لاقت رواجاً كبيراً بين الشباب فى أوروبا، وأصبحت «موضة» كما يُقال. وفى شهور قليلة أصبح الشاب المصرى المغترب مولعاً بالفكرة وواحداً من المؤمنين بها والمتحمسين لها، وفور عودته إلى مصر بدأ العمل على تنفيذ مخططه الذى آمن به.

كانت الحادثة بداية لظهور فكرة الاغتيال السياسى فى مصر، وسبباً فى إنشاء واحد من أهم الأجهزة القمعية بوزارة الداخلية، وهو جهاز «البوليس السياسى»، تحت قيادة الإنجليز وبإشرافهم وبإشراك عملائهم، لتعقب الحركة الثورية الناشئة فى مصر- والتى اتجه بعضها إلى الاغتيال الفردى، يأساً من إمكانية قيام «ثورة مسلحة»- تحت زعم أن تصاعد هذه الاغتيالات الفردية قد يصل إلى حد الثورة.

هذا الجهاز القمعى كان يُطلق عليه فى البداية اسم «مكتب الخدمة السرية»، ثم حمل عدة أسماء أخرى فيما بعد، منها: «القلم المخصوص»، «القسم السياسى»، الفرقة «ب»، «الإدارة الأوروبية»، نسبة إلى رئيسها الذى كان إنجليزى الجنسية.

بعد صدور حكم الإعدام على منفذ الجريمة، احتشدت الجماهير الغاضبة، معلنة رفضها هذا الحكم الجائر.. وكانت ليلة حزينة على كل المصريين، وردد البعض الأغنية العميقة والضاربة فى عمق الوجدان المصرى: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لاحسن غزال البر- أى الوردانى- صابح ماشى».

ومنذ هذا التاريخ تجددت الأغنية- مجهولة المؤلف- وعادت إلى الحياة مرة أخرى، معبرة بحزنها خير تعبير عن لوعة الفراق.

ومنذ ذلك التاريخ لازمت الأغنية المصريين فى وداعهم لكل عزيز، حتى إن شاعر العامية المصرية بيرم التونسى استخدمها فى واحدة من قصائده المعبرة عن حزن المصريين، لنفى الإنجليز للزعيم سعد زغلول بقوله: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لاحسن رئيس الوفد صابح ماشى»!

عبقرية المصريين تستحضر «الجملة المناسبة» فى «التوقيت المناسب».. عبقرية عميقة تتجلى فى الأزمات.. عبقرية متفردة كالبركان يقذف ما فى عمق الأرض إلى السطح.. دون سابق إنذار!

facebook.com/sherifarefpress