تحدّث معى تليفونياً شيخ نقاد ومؤرخى السينما فى مصر والعالم العربى أحمد الحضرى، وشرفنى بقوله إن هذا العمود «صوت وصورة» يتميز بإضافة معلومات جديدة ومدققة، ويفيد القارئ، وأنه يتابعه يومياً ويستمتع بقراءته.
وقال أستاذ الأساتذة الذى تجاوز التسعين- أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية- إن المشكلة الوحيدة ذلك البنط الصغير جداً الذى تنشر به كلمات العمود، وأنه لا يستطيع القراءة من دون استخدام مكبر، وأن على الجريدة مراعاة كبار السن.
والواقع أن هذه ليست مشكلة كبار السن فقط، وحتى الذين يتمتعون بقوة البصر الكاملة يبذلون فى قراءة ذلك البنط جهداً من دون ضرورة، ومشكلة هذا البنط، والذى ينتشر فى العديد من الصحف والمجلات تعكس فى تقديرى مشكلة كبيرة، بل من المشاكل الكبرى فى عصرنا إن لم تكن الأكبر.
نحن نعيش فى عصر الثورة التكنولوجية منذ أكثر من ربع قرن، وهى الثورة الثالثة فى تاريخ الإنسانية بعد الثورتين الزراعية والصناعية، والمقصود بالثورة هنا التغيير الجذرى، كما فى الثورات الشعبية السياسية.
وقد أدت هذه الثورة إلى تحقيق عبارة ماكلوهان الشهيرة عن القرية الصغيرة التى أصبح عليها العالم، وكان يقصد الراديو والتليفزيون، ولم يخطر على باله البث التليفزيونى الفضائى الذى لا يتوقف قط، ولا الموبايل والكمبيوتر الشخصى والإنترنت والإيميل، وجوجل وفيس بوك وكل ما نعيشه اليوم، وما لا نعلمه فى الغد.
ونحن نتابع كل يوم توقف هذه الصحيفة أو تلك المجلة عن الصدور والاكتفاء بموقعها على الإنترنت، وأصبح هناك مصطلح الطبعة الورقية ومصطلح الطبعة الإلكترونية، والكتاب الورقى والكتاب الإلكترونى، وقد حذر راى برادبورى مبكراً عام 1957 فى روايته «فهرنهيت 451» من اندثار الكتب والاكتفاء بالتليفزيون، و451 هى درجة احتراق الورق، وفى الرواية فرقة خاصة تحرق الكتب أينما وجدت لأنها تثير خيال الناس وتحرك عقولهم.
، كما حذر أومبرتو إيكو من طغيان الذاكرة المعدنية على الذاكرة النباتية، والمقصود رقائق الكمبيوتر المعدنية، والورق الذى يصنع من نبات الأشجار، وقال إيكو إن كل الذاكرة الإنسانية على الورق، ومن دونها يصبح الإنسان من دون ذاكرة، مثل أى فرد يفقد ذاكرته.
ولم يكن برادبورى أو إيكو مثل شابلن عندما اخترعت الأفلام الناطقة، وقال إنها مثل «حمار ينهق»، وظل يصنع الأفلام الصامتة لفترة قبل أن يستسلم ويصنع الأفلام الناطقة، والمحارب ضد نتائج الثورة التكنولوجية مثل دون كيشوت الذى يحارب طواحين الهواء فى رواية سيرفانتس، ولكن من الضرورى لمستقبل أفضل ألا يصبح التليفزيون بديلاً للكتاب وألا يصبح الكتاب الإلكترونى بديلاً للورقى، وإنما أن يتعايشا معاً، وهذا ما يجب العمل عليه، وما سيحدث بمنطق لا يصح إلا الصحيح.
والخطر فى القراءة الإلكترونية أن القارئ يشاهد الكلمات كما يشاهد التليفزيون ولا يقرؤها بالمعنى الصحيح للقراءة الذى يعنى الفهم، والكلمة الأولى فى القرآن الكريم، وهى «اقرأ» لا تعنى القدرة على القراءة ونقيضها العجز عنها، أو «الأمية»، وإنما تعنى افهم وأدرك واعلم واعرف.
وامتداداً لمشاهدة الكلمات يستخدم المخرجون الفنيون للصحف والمجلات والكتب والكتالوجات ذلك البنط الصغير، فالكلمات عندهم أصبحت كتلة للمشاهدة فى شكل فنى، وليس من المهم أن تقرأ، أو أن القراءة فى أحسن الأحوال تأتى فى الدرجة الثانية، ولا أريد القول إنها دعوة لعدم القراءة.