لماذا لم يقتل أبوبكر الحُطيئة عندما ارتدَّ عن الإسلام؟

أحمد الشهاوي السبت 09-04-2016 21:55

ينسى المشتغلون بالدين دومًا أن الإسلام دين حضارة، بمعنى أنه يهتم بالدنيا، إضافة إلى أنه سلوك ومعاملات، وليس فقط أداء طقوس العبادات والشعائر والفروض، لكنَّ التجَّار يبتعدون به عن جوهره، ويتعاملون مع الشكل فقط، دون الذهاب إلى متْن ولُب الدين، الذى رفد ثقافاتٍ وحضاراتٍ أخرى كثيرة عبر فلاسفته وفقهائه ومتصوفيه وأقطابه ممن جدَّدوا الدين، وهُم من نصفُهُم: «المجددون فى الإسلام»، ووضعوه دومًا فى المقدمة، دون أن يبتغوا جزاءً ولا شكورًا ولا منصبًا من سلطانٍ أو والٍ أو خليفة أو أمير، ومع ذلك كان أكثر هؤلاء قد تعرَّضوا للتكفير والاتهام بالخروج على الدين والتعذيب والنفى والإقصاء والقتل.

فمن نختلف معه مذهبيًّا أو فكريًّا نكفِّره فى دقائق معدُودات دون تأنٍّ أو رويَّة، ونتهمه بالردَّة، وننزل فيه حُكمًا، غالبًا ما يكون سجنًا، وعند الأشد تطرُّفًا قتلا وذبحًا، وهم فى ذلك جاهلون بأمر دينهم الحق، لأنَّ شاعرًا كـ«الحُطيئة» كان قد ارتدَّ عن الدين الإسلامى، رافضًا خلافة أبى بكر الصديق، مُستكرًا كونه سيخلُف النبىّ محمد، وقد قال فى ذلك شعرًا صار شهيرًا من فرط تداوله عبر الأزمان، وأيضا صار موقف أبى بكر مضرب المثل فى التسامح والعفو، من فرط تناقُل القصة جيلا إثر جيلٍ، وقد رأينا أن أبا بكر قد صار خليفة، ولم يفعل شيئًا لمرتدٍّ هجاه اسمُهُ الحطيئة، حين قال:

أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا { فَيَا لهفتا ما بال دين أبى بكرِ!

أيورثها بكرًا إذا مـات بــعـده { فتلك وبيتِ الله قاصمةُ الظَّهرِ!

وكان فى مقدرة أبى بكر أن يقتله، لولا أنه يعلم أن لا حدَّ للردة فى الإسلام، وأن الله قد خاطب رسوله من فوق سبع سمواتٍ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الآية 99 من سورة يونس )، وقال سبحانه: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الآية الثالثة من سورة الإنسان)، ولأن أبا بكر الصديق كان يعلم علم اليقين أن ليس لأحدٍ أن يُرغِم سواه على الدخول إلى الإسلام متمثِّلا قولَ ربِّه فى الآية 48 من سورة الشورى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وأن من بيده الحساب والعقاب هو الله وحده- عز وجل- وليس غيره مهما تكُن صفته ومنزلته كما جاء فى الآيات من 21 وحتى 26 من سورة الغاشية: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾.

وحرية الاعتقاد مكفولة للإنسان، ولن أقول بمقتضى ميثاق حقوق الإنسان، ولكن بمقتضى النصِّ القرآنىّ، الذى هو عندى الدليل والحُجَّة والمرجع والبرهان والكتاب الأول، الذى ينبغى الأخذ به والرجوع إليه، والقرآن- كما هو معروفٌ- يجُبُّ ما سواه من فتاوى المشتغلين بالدين، الذين صار أكثرهم من دُعاة التشدُّد والتزمُّت، والتعسُّف فى الشرح والتأويل والتفسير، رغم أنَّ بيانَ القرآن جلىّ وواضحٌ، لا التباس فيه، ولا غمُوض أو إعتام، فلا يستطيع أحد منهم أن يراجع قول الحق: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية التاسعة والعشرون من سورة الكهف، ولعل ما حملته الآية 256 من سورة البقرة لهو خيرُ دليلٍ على أن عقاب المرتد هو عقاب أخروى بيد الله، وليس عقابًا دنيويًّا بيد البشر ممن يتولون أمور القوم: (لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

والذين يقول عنهم تجَّار الدين إنهم ينبذون، ويزدرون دينهم، أى يحتقرونه، أى يخرجون منه إلى دين آخر، وهم بالفعل والقلب ليسوا كذلك، لأنه طبقًا للفقه الإسلامى فالكُفر أو الارتداد عن الدين يكون قولا لا قلبًا، ولم نجد أحدًا ممن تعرَّض للتكفير والسجن قد أقر برجوعه عن الدين، وقطَعَ كليةً مع الإسلام مُتخذًا لنفسه ديانةً إبراهيمية أو غير سماويةٍ أخرى، ولكن ما نراه من اتهامٍ بالارتداد والتكفير، وإهدار الدم، ليس سوى سوء ظنٍّ وشكٍّ، وهناك نهى عن ذلك، لأنه لا يمكن لقاضٍ أن يشهد بكُفرٍ أو بشِركٍ ما لم يظهر على المتهم شىء من ذلك، لأن السرائر بيد خالقها، وليست بحكمٍ آتٍ من قاضٍ من بين البشر، لأنه لا توجد دلالة فعل أو قول.

ولا عجب أن نجد فى زماننا قاضيًا أكثر تشدُّدًا من نصوص القرآن ذاتها، كأنه لا يعرف أن حرية الاعتقاد هى الأصل فى الدين، دون مُؤاخذةٍ من أحدٍ من البشر مهما علا قدره أو صغر شأنه.

وإن كان هناك أحدٌ قد ارتد عن دينه، فالله المُحاسب، حيث الدين مسألة خاصة بين العبد والمعبُود- ولا يمكن لأحدٍ أن يتدخَّل فى علاقةٍ كهذه- وذلك العبد ذاته يدرك- أيضًا- أن هناك آيات كثيرات فى القرآن، تناولت الارتداد فى سور مثل: البقرة، والمائدة، ومحمد، والنحل، وآل عمران، والنساء، توعَّدت المرتد بعذابٍ عظيمٍ، لكننا لم نر فى القرآن ذلك العقاب الدنيوى، الذى ينزله البشر من الفقهاء والقضاة وأئمة العصر، ولم نر توقيع حدٍّ على المرتد.

ولعل الآية السادسة من سورة «الكافرون»: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، تُمثِّل الدستور الحقيقى لمفهوم الحرية الدينية فى الإسلام، خُصُوصًا بعد اعتراف النبى محمد ليهود المدينة بحرية العقيدة وأنهم يُمثِّلون مع المسلمين المُهاجرين أمةً واحدة.

لكن للأسف ما نراه الآن هو استغلالٌ سياسىّ للدين، وتوظيف وتطويع ذلك الدين لخدمة السياسة، حيث يسير الشيخ والسلطان فى طريقٍ واحدةٍ، الأول يوطِّد الأركان للثانى ربيب نعمته وسيده، وهو من أقامه فى مكانه، وله أنَّى شاء أن يُقصيه، والثانى يترك للشيخ حرية استغلال الدين، ومنحه سلطة الإله.

فالشيخ يريد أن تكون المرجعية الأولى والمُطلقة له، ولا يجوز لأحد أن يتكلَّم فى الدين سواه، حيث يظن أن ذلك حق له، لا يمكن التنازل عنه لأحدٍ مهما يكن علمه، والسلطان يريد إطلاق يديه، كى يحكم ويتسلطن دون مُعارضةٍ أو مُنغصات أو أفكار تُناقض أفكاره.

وعلى الجانب الآخر، هناك مئات من العلماء والفقهاء والأئمة، الذين ذهبوا ضحايا تُهَم الارتداد عن الإسلام، وكلها كانت تُهمًا أقرب للتقريع والتوظيف السياسى، أكثر منها تخلى هؤلاء عن اعتقادهم فى الإسلام.

هذا ما نراه على مدار التاريخ خُصُوصًا كلما أطلَّ الاستبداد برأسه من نافذته، فإذا ما رأى العمامة تهتز بالموافقة (ونادرًا ما لا تهتز)، ترك نافذته، وفتح باب الظلم والإظلام على مصراعيه، وعاث إفسادًا فى البلاد والعباد.

ahmad_shahawy@hotmail.com