حتى سبعينيات القرن الماضى، لم يكن لمصطلح « الإرهاب»، أى مدلول سياسى فى صعيد مصر، إذ كان مدلوله يقتصر على أولئك الذين يمارسون الجرائم الجنائية المسلحة: «السطو» ـ «الاختطاف والابتزاز»ـ «فرض الإتاوات»... إلخ، والذين لم يكونوا يترددون فى إزهاق الأرواح أو إحراق المساكن وإتلاف المزروعات فى حالة عدم الاستجابة لمطالبهم.. ومن موقع ما عايشته شخصيا فى أحد المراكز التى اتسمت بأنها كانت تعانى من المعارك الثأرية بين عائلاتها الكبرى أكثر مما كانت تعانيه من الإرهابيين (بالمعنى سالف الذكر)، حيث إن الأخيرين لم يكونوا يستهدفون فى الغالب إلا أبناء العائلات الضعيفة أوالمسالمة، من موقع تلك المعايشة أستطيع أن أقرر أن حقبة الخمسنيات والستينيات قد اتسمت بالانحسارالنسبى الواضح للعمليات الإرهابية (بمعناها المتقدم)، وربما كان ذلك راجعًا فى جانب منه على الأقل إلى القبضة الباطشة التى اتسم بها النظام الناصرى الذى اتسعت معتقلاته للإرهابيين، جنبا إلى جنب مع الخصوم السياسيين للنظام وعلى رأس هؤلاء الخصوم جماعة الإخوان المسلمين التى لم يكن المواطنون العاديون فى الصعيد يحبذون وصف أعضائها بالـ«إرهابيين»، رغم سجلها الحافل بأعمال العنف والاغتيال على مدى تاريخها كله..
ربما كان هذا راجعًا إلى أن مصطلح «الإرهابى» قد استأثر به كما أشرنا منذ قليل المجال الجنائى الخالص وأصبح من الصعب أن يزاحمه فيه مدلول آخر، وربما أيضا لأن سائر الاغتيالات وأعمال العنف التى قامت بها الجماعة كانت موجهة إلى الحكام ورموز الحكم وحدهم، أما المواطنون العاديون فلم تتوجه إليهم قط ببنادقها، ولكنها توجهت إليهم دائما بمحاولة تجنيدهم وتوسيع قواعدها فى صفوفهم، مستغلة فى ذلك مشاعرهم الدينية عميقة الجذور، ولقد ظل الوضع كذلك إلى أن وقعت كارثة عام 1967 التى شهد الصعيد بوقوعها منعطفا بارزا فيما يتعلق بحجم وطبيعة الإرهاب (الذى كان لا يزال حتى ذلك الوقت ينصرف إلى المدلول الجنائى).. كان ذلك المنعطف متمثلا فى فقدان القوات المسلحة المصرية للجانب الأكبر من أسلحتها وعتادها وذخائرها، وسرعان ما وجد جزء كبير من هذه الأسلحة والذخائر طريقه بشكل أو بآخر إلى الصعيد، حيث تدفقت إليه كميات هائلة من الأسلحة والذخائر، وتزامن هذا التدفق مع التراخى النسبى للقبضة الباطشة للدولة، وهو ما اتسم به نظام الرئيس السادات بوجه عام فى حقبة السبعينيات، والذى كان من أهم تجلياته الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين الجنائيين والسياسيين. وبعد ذلك التاريخ بقليل تزايد تدفق العمالة المصرية على دول الخليج بعد ارتفاع أسعار البترول فى أعقاب حرب أكتوبر، حيث عاد الكثيرون منهم وجيوبهم محشوة بالريالات ورؤوسهم محشوة بالأفكار الوهابية التى كان من السهل عليهم أن يتقبّلوها نتيجة الاقتران الشرطى الذى انعقد فى وجدانهم بين تلك الأفكار وبين منبع الرزق الذى عادوا به إلى بلادهم!..
ولقد كان من الطبيعى والمنطقى أن ينضم جانب منهم إلى تلك الجماعات والتنظيمات التى راحت ترفع شعار: «الإسلام هو الحل»، والتى راح بعضها يتنادى إلى الجهاد المسلح من أجل وضع هذا الشعار موضع التطبيق.. ومن غرائب المفارقات أن الرئيس السادات نفسه كان قد عهد إلى واحد من معاونيه بإنشاء أحد هذه التنظيمات (تنظيم الجماعة الإسلامية) بقصد استخدامه فى تصفية بقايا النظام الناصرى فى الجامعات، وللحديث بقية.