جنيه ودولار!!

عبد المنعم سعيد السبت 09-04-2016 21:55

فى أعقاب الحرب العالمية الثانية كان هناك أكثر من عشرة أسباب، ليس هنا وقت تعدادها، لماذا حدثت «المعجزة اليابانية» بعد قصف اليابان بالقنابل الذرية؟!. ولكن واحدا منها يلفت الأنظار، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية عمدت أو تسامحت مع حقيقة أن العملة اليابانية «الين» بقيت منخفضة عن واقعها الاقتصادى، أو الحقيقى، على مدى ربع قرن «1945 إلى 1970» تقريبا. ظل سعر الدولار مساويا 365 «ين»، حتى جاءت الأزمة الاقتصادية لأمريكا، فبدأ الأمر يتغير عندما وجدت الولايات المتحدة أنه يكفى اليابان أنها كانت تستفيد من الحرب الفيتنامية كما استفادت من الحرب الكورية من قبل، فآن أوان تقوية الين اليابانى. وعندما زرت اليابان لأول مرة عام 1986 كان الدولار مكافئا لمبلغ 165 «ين»، وانقضت ثلاثة عقود حتى بات الدولار يساوى نصف هذا المبلغ أو أكثر قليلا. ولمَن لا يعرف، أو يتابع، فإن واحدا من أسباب «المعجزة الصينية» الكثيرة هو أن الصين قررت أنها لن تدخل سوق العملات العالمية «الحرة»، وفوق ذلك فإنها سوف تُبقى سعر عملتها أقل من قيمتها الحقيقية عمدا.

الأمثلة بعد ذلك عديدة، وكلها تشير إلى أن انخفاض سعر العملة الوطنية ليس من الأمور الشريرة، بل إنه يمكن أن يكون دافعا إلى زيادة الصادرات، والموارد من الدولار وباقى العملات الأجنبية، بل إنه يمكن أن يكون محفزا للسياحة، حتى فى أوقات صعبة. الأمر المهم هو أن يكون للعملة سعر واحد، أما تعدد أسعار العملة بين سوق حقيقية، وأخرى موازية، وثالثة سوداء، ورابعة للواردات، وخامسة للأفراد، فكل ذلك هو الشر بعينه، وهو تحديدا ما يحدث عندنا. تخيل أن شخصا ما- ولأسباب كثيرة- ارتفعت درجة حرارته إلى أربعين درجة مئوية، فهل يمكن معاداة الحقيقة المرة باستخدام ترمومتر لا يكون فيه مقياس يزيد على 37 درجة مئوية؟ النقود فى الواقع الاقتصادى هى هذا الترمومتر الذى يقيس القيمة والثمن وعلاقة العرض بالطلب، ولا يمكن ولا يجوز التلاعب بمثل هذا المقياس، بحثا عن تفاؤل لا أساس له فى الحقيقة، وربما لا يكون ضروريا. والمرجح كما حدث معنا مرات عديدة من قبل أن الجنيه المصرى سوف يسير فى طريقه المحتوم، دون فوائد من انخفاض قيمة العملة، لأنها ببساطة لا تنخفض فقط وإنما تتعدد، وفى تعددها يكون هناك تدليل، فيُعرف الأمر بأنه «سوق موازية»، وليس سوقا سوداء صريحة كما سواد الليل.

مَن سبقونا إلى الأزمات الاقتصادية الكبيرة لم يؤمنوا بهذه الفكرة التعددية المصرية الصميمة. ووفقا لمصدر «بلومبرج»، فى 14 أكتوبر 2015 فإن البرازيل، «صاحبة المعجزة البرازيلية»، تراجعت قيمة عملتها بنسبة 31.5%، والليرة التركية انخفضت بنسبة 20.3%، والرينجت الماليزى 16.7%، والسيدى الغانى 15.9%، والراند الجنوب أفريقى 13.7%، والبيزو المكسيكى 11.1%، والروبية الإندونيسية 9%، أما الجنيه المصرى فانخفض بنسبة 8.7%.

ومع الربع الأول من العام الحالى كان هناك فارق كبير بين الدول التى قبلت بخفض عملتها، والحالة المصرية التى ظل العناد محركا لها بتحميل العملة أثقالا اجتماعية ليست وظيفة العملة تحمُّلها، فقد ارتفعت قيمة الريال البرازيلى بنسبة 9.2%، والليرة التركية 4%، والرينجت الماليزى 8.6%، والراند الجنوب أفريقى 3.7%، والبيزو المكسيكى 1.3%، والروبية الإندونيسية 4.4%؛ أما الجنيه المصرى فقد انخفض بنسبة 13.9%. وبالمناسبة فإن البوليفار الفنزويلى انخفض بنسبة 58.4% ما بين إبريل 2015 وإبريل الجارى، أما الروبل الروسى فقد تراجعت قيمته بنسبة 41% خلال العام الماضى.

والأمثلة لا حصر لها، ولكن ما يهمنا ملاحظته أنه لم يحدث فى تاريخنا البعيد، ولا فى تاريخنا القريب، أن نجحت محاولات الالتفاف على واقع اقتصادى بعينه. والمسألة باختصار هى إما أن نقبل بالتعامل المباشر مع هذا الواقع، وبأكثر قدر ممكن من الشفافية، والشجاعة الحقيقية، أو ندفع ثمنا اقتصاديا فادحا. إجرائيا هذا يعنى تعويم الجنيه المصرى، فيكون له ما كان لعملات الدول الأخرى، بل ما كان بالنسبة للجنيه فى مراحل سابقة، فتنخفض قيمته أولا، ثم تعود ثانيا للارتفاع. وفى الطريق فإننا نحصل على مقياس حقيقى وغير مزيف للاقتصاد، ويعرف المستثمرون المصريون والأجانب ما هم مقبلون عليه، فيأخذون فى الاستثمار، ويجد أصحاب الدولار أن الاحتفاظ به لا يختلف عن مبادلته بالعملة الوطنية، فترتفع الاحتياطيات.

والحقيقة أنه لا يوجد فى هذا القول اختراع، أو أن فيه إبداعا من قريب أو من بعيد، وإنما هو حقيقة التجربة العالمية منذ كان هناك تحليل اقتصادى. صحيح أننا باسم «الخصوصية» نتخيل أننا نختلف عن بقية البشر، وباسم الفقراء نتصور أننا نحميهم كلما بالغنا فى دفنهم داخل رمال متحركة تأخذنا جميعا فقراء ومستورين إلى حيث تكون التهلكة. أيها السادة: لا فائدة من دفن الرؤوس فى الرمال، وتصوُّر أنه ما دمنا لا نرى الخطر الناجم عن التلاعب بالجنيه المصرى، فإن الأوضاع الاقتصادية سوف تتحسن بشكل أو بآخر. للأسف فإنه لا يوجد فى كتاب الاقتصاد شىء من ذلك!!.