أعتقد أنه أصبح من الصعب الآن وجود سرير خالٍ بأى مستشفى فى بر مصر، حكومياً كان أو خاصاً، من الصعب الكشف لدى أى طبيب خلال ساعة أو ساعتين، وأحياناً خمس ساعات، قائمة الانتظار أشبه برول جلسات المحاكم، أصبحت بالمئات فى بعض الأحيان، وذلك فى أعقاب حجز لدى البعض يصل إلى عدة شهور، أيضاً من الصعب إجراء أشعة من أى نوع بأى مركز متخصص دون معاناة، كذلك الأمر بكل ما يتعلق بالإجراءات المساعدة، من مناظير، ورسم قلب، وتحاليل، وسلسلة طويلة تتزايد يوماً بعد آخر، مع التقدم العلمى فى هذا الشأن، تنتهى فى النهاية بحجرة العمليات فى كل مستشفى، والتى أصبحت هى الأخرى بالحجز، فى إطار انشغالها ربما على مدار الساعة.
الغريب فى الأمر هو أن زيارة واحدة لأى مركز عيون سوف نتخيل بعدها أن كل شعب مصر مريض بالعيون، زيارة واحدة لمركز عظام، سوف تجعلنا نعتقد نفس الاعتقاد، أن المصريين جميعهم مصابون فى عظامهم، كذلك الحال مع الأمراض الباطنة، والقلب، والأمراض الروماتيزمية بأنواعها، والأسنان، إلى آخر ذلك من سلسلة طويلة أيضاً، تؤكد فى النهاية أن الأمر لا يتوقف أمام مرض معين يمكن التركيز عليه لمقاومته، مثلما حدث مع شلل الأطفال مثلاً، أو الحصبة، أو حتى أكثر من مرض، وإنما كل الأمراض التى وردت فى كتب الطب تقريباً.
فى سبعينيات القرن الماضى، كانت البلهارسيا هى المرض المنتشر والمتوحش الذى يهدد حياة المصريين، من الشمال والجنوب، نظراً لاعتماد معظم الناس حينذاك على مياه النيل، ليس فى الاغتسال فقط، وإنما فى الشرب مباشرة دون تكرير أو تنقية، رأينا البشر يسبحون فى المياه مع المواشى رأساً برأس، رأينا السيدات يغسلن الملابس والأوانى المنزلية فى نفس هذه المواقع، لم يكن ذلك فى ترع رئيسية طوال الوقت، وإنما فى ترع جانبية أيضاً، مع ما تحمله من تلوث أخطر بكثير مما هو موجود بالترع الرئيسية، حيث الصرف الصحى فى معظمها.
المهم أن كل ذلك أسفر عما يعرف بمرض البلهارسيا اللعين، الذى أخذ فى التفاقم بعد بناء السد العالى، فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، وكان العلاج الأمثل الذى ظهر فى السبعينيات تحديداً، ما يعرف بحقنة «الطرطير»، هكذا كان اسمها المتعارف عليه شعبياً، لا أدرى ما هو الاسم العلمى، إلا أنها كانت العلاج الشافى المعتمد دولياً من منظمة الصحة العالمية بصفة خاصة، ما لم يكن معلوماً ولم يتم اكتشافه إلا بعد نحو عشرة أعوام أو أكثر الآثار الجانبية لهذه الحقنة والتى كانت كارثية بكل المقاييس، وهى الفشل الكلوى، أو «فيروس سى» الذى أصاب كل من تعاطاها، وهم بالملايين.
ما لا يدركه البعض هو أن مرض البلهارسيا توقف تماماً فى مصر، بعد انتشار محطات تنقية المياه، وبعد وصول المياه المرشحة إلى المنازل، فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، فى أعقاب ثورة بناء وتشييد وإحلال وتجديد حقيقية لنحو ٩٠٪ من المنازل الريفية، نتيجة ما ورد إلى البلاد بالدرجة الأولى من تحويلات العاملين بالخارج، وبصفة خاصة من العراق آنذاك، أى أن ذلك الفيروس الذى يعانى منه الآن مواليد الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، هو نتاج طبيعى لحقنة السبعينيات المستوردة، وليس أبداً وليد حقبة الثلاثين عاماً التى تلت ذلك التاريخ، وهو ما يدركه جيداً الأطباء المتخصصون فى هذا المجال، بدليل أن البلهارسيا وفيروس سى معاً قد توقفا أمام مواليد ما بعد تلك التواريخ، على الأقل فى كل الأقاليم التى وصلتها المياه النقية.
بالعودة إلى قضيتنا الأساسية، ربما لا نعثر الآن على أسرة مكونة من خمسة أفراد، لا يحصل أحد أطرافها على علاج دائم لأى سبب، قد يكون أكثر من فرد، التلوث يتفاقم فى الماء، كما فى الهواء، كما فى الغذاء، معلوماتنا فيما يتعلق بطرق التغذية الصحيحة ينقصها الكثير، فلاتر المياه بالمنازل بها ما بها من أوجه القصور، بل من أوجه الإصابة بالأمراض، لم نتحدث بعد عن أعداد الذين يتلقون علاجهم خارج مصر، هم لا يثقون فى الطبيب المحلى، لا يثقون أيضاً فى الدواء المنتج محلياً، إمكانياتهم المادية شجعتهم على ذلك، قد يكون معهم كل الحق، إلا أننا نبقى مع قضيتنا الأساسية، وهى أن تلوث الماء والغذاء والهواء يظل السبب الرئيسى لما نحن فيه من أزمات صحية كارثية، وبالتالى يجب أن نبدأ من هنا.. نستكمل غداً.