(1)
ثلاث مرات فى حياتى الجامعية التى امتدت لأكثر من ثلاثة عقود و نصف، عجزت فيها عن السيطرة على نفسى، ووجدتنى أندفع غاضبا ملوحا بيدى، ومتفوها بكلمات خشنة، برغم ما ألزمت به نفسى من ضرورة كبح انفعالاتي والتحكم فيها، غير أن ما تعرضت له فى هذه المرات الثلاث كان أشبه بزلزال هز كل أعمدة الضبط و الربط، ورباطة الجأش وأدوات الكبح والتحكم التى تصورت أننى حصنت نفسى بها، فأصبحت بمأمن من الانسياق فى تيار المشاعر المنبثقة من المواقف المباغتة أو الظروف الطارئة.
الموقف الأول:
في كلية الآداب جامعة كفر الشيخ، كنت أُدرِّس قصيدة خمرية لأبى نواس ضمن مقرر الأدب العباسى، إذ لاحظت أن طالبة منتقبة تجلس فى آخر الصف قد بدا عليها التوتر والانفعال، فبادرت بسؤالها إن كانت تريد شيئا، فهبت واقفة معلنة استياءها من الموضوع جميعه، إذ إنها كانت تتمنى أن تسمع شعرا يحض على الأخلاق والدين، والمعروف أن الخلط بين الأخلاق والدين فى درس الأدب خطأ جسيم، غير أن سلوك الطالبة دفعنى لتأمل الموقف من جديد.. وقد شرعت بالفعل فى البحث عن طبيعة العلاقة بين الفن والأخلاق فى ضوء الحالة النواسية، انتهيت إلى نتيجة مؤداها : "إذا كان أبونواس قد تخلى عن كل فضيلة، فحسبه أنه قد تحلى بفضيلة الصدق، ولئن كان صدقا يندى له الجبين، إلا أنه يَفْضُل كذب المحسوبين –خطأ- على الأخلاق والدين، وهكذا لخصت من خلال هذا البحث القول فى هذا الفصيل الذى أراد للشعر أن يكون عبدا للأخلاق، وبدا لى أن أبا نواس بكل مجونياته أفضل من هؤلاء الذين اختزلوا الدين فى القشرة التى تستر أجسادهم. غير أننى آثرت أن أعبر عن استيائى من أجواء التجريم والتحريم التى شاعت فى المجتمع عامة وفى الجامعة خاصة من خلال عبارة قالها صلاح عبدالصبور على لسان "الأستاذ" فى موقف مشابه من مسرحية "ليلى والمجنون".. قال وأقول:
"لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب/ هذا القدر من السفلة و الأوغاد".
الموقف الثانى:
فى كلية الآداب جامعة طنطا، كنت أُدَرِّس الأدب العربى للأقسام غير المتخصصة، واخترت قسم الآثار، وكنت أحرص على مرافقة طلابه فى رحلتهم السنوية إلى مدينتى الأقصر و أسوان، فانعكس تقديرى للحضارة المصرية على طلاب القسم الذين ما إن بدأت محاضراتى معهم حتى حدثتهم عن شغفى الشخصى بقسم الآثار، وعن حظهم السعيد في التعرف على حضارتهم التى يتلهف العالم كله على رؤيتها. وفى الوقت الذى كنت أتحدث فيه بهيام و شوق عن آثارنا، إذا بطالبة تفاجئنى بقولها: إن الآثار كلها حرام، و زيارتها حرام أيضا، لم أسألها بالطبع عن مصدر فتواها لأنى أعلم أن السفلة والأوغاد الذين عاثوا فسادا فى البلاد، وطفقوا ينثرون وصاياهم التى صادفت، ضمن ما صادفت عقلا فارغا لهذه الطالبة المسكينة فاستقبلتها باعتبارها وصايا جديدة وفتاوى نهائية، ولم يكن لديها أي مستوى من الحصانة الفكرية التى تجعلها تدافع عن بيتها الذى اختارته مجالا لدراستها.. وهكذا تصبح الطالبة ضحية لفكرة خاطئة، وتظل متمردة على نفسها ودراستها، وربما على أهلها وذويها، ذلك أن المجتمع أصبح فى تقديرها كافرا، وهو ينشئ قسما لدراسة الآثار الكافرة، ولم أشأ أن يصدر منى رد فعل انفعاليا، فآثرت أن أمرر غضبى من خلال سؤال صلاح عبد الصبور الذي ينقذنى عادة من الانجراف إلى ما لا تحمد عقباه من الألفاظ أو التصرفات، فقلت:
"لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب/ هذا القدر من السفلة و الأوغاد".
الموقف الثالث:
فى كلية الآداب جامعة دمياط، أخذتنا محاضرة الأدب الحديث إلى المقارنة بين أغانى هذا الزمان وأغانى الماضي، و ما إن ذكرت اسم رياض السنباطى باعتباره رمزا من رموز الزمن الجميل حتى لاحظت أن طالبة تجلس فى مواجهتى قد اربد وجهها، وبدت عليها علامات القلق والاختناق، فعلمت من زميلاتها إنها بمثابة حفيدة لرياض السنباطى، فأسعدني لقاء حفيدة الموسيقار العظيم الذى متّعنا، وقدم لنا فنا رائعا وجميلا، وتوقعت أن تتحدث الطالبة عن جدها متباهية بانتسابها إليه، غير أننى فوجئت بها تقول بغضب مقتضب: إن الموسيقى حرام!، ولك أن تتخيل حالى أنا الذى ما إن ينتهى من صلاة الفجر حتى يهرع إلى صوت رياض السنباطى يلوذ به متوسما يوما سعيدا محمولا علي صوته، أو على نغمات عوده، أو على الشجن الصادر من أوتاره مغموسا بصوت أم كلثوم، لقد تجمع غضب الدنيا كله فى صدرى، لكن عبارة عبدالصبور تكون دائما ملجأ و ملاذا أنفث من خلالها ما تراكم فى نفسى من غضب، وما تزاحم فيها من اشمئزاز وقرف، ولا ألبث أردد:
"لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب/ هذا القدر من السفلة و الأوغاد".
(2)
المؤسف أن هؤلاء السفلة والأوغاد، كانوا قد تربوا على أيدينا، وصُنعوا على أعيننا نحن أساتذة الجامعات.. بدءا من أواخر سبعينيات القرن المنصرم حتى مطالع القرن الحالى، و ذلك بالتزام الصمت إزاء حماقاتهم، أو بتجنبهم باعتبارهم كائنات ضارة، أو فى مجاراتهم و إبداء الرضا عن أفكارهم، أو نفاقهم و تشجيعهم على المضى فى هذا الطريق، فنحن مسئولون (بشكل أو بآخر) عن نمو هذه الخلايا السرطانية فى جسد المجتمع، وفى غفلة منا ترعرعت هذه الخلايا حتى أضحى اجتثاثها من تربة وادينا الطيب أمرا عسيرا، ولئن كنت قد صادفت هذه الحالات الثلاث، فمن المؤكد أن حالات أخرى عديدة، مشابهة أو مماثلة، قد صادفها غيرى. الحالات بالمئات أو بالآلاف، لكنها فى الحقيقة حالة واحدة، لأنها ترتد إلى جذر فكرى واحد، ترويه وتغذيه مياه واحدة هي فى معظمها مياة آسنة آتية من فهم خاطئ لعقول قاصرة أخطأت قراءة ديننا الحنيف وتأويله، وما أكثر الافتراءات التى تنسب إلى الدين، والدين منها براء. لقد آن الأوان لأن نطهر ديننا مما شابه من فيروسات وفطريات لكى يعود نهر الدين صافيا ورقراقا كما بدأ، وساعتها سينعكس هذا الصفاء على نفوس المصريين ووجوههم.
المقال بقلم الدكتور: أحمد عبدالحى
أستاذ الأدب والنقد بآداب دمياط