أزمة المناهج الدراسية

عبد الناصر سلامة الجمعة 08-04-2016 21:33

لو أن عشرة مؤرخين دوّن كل منهم منفرداً الأحداث التى مرت بها مصر على مدار السنوات الخمس الماضية، لاختلفوا جميعاً فى نظرتهم إليها، فى الحكم عليها، فى مسمياتها، فى أسبابها، فى نتائجها، بل إن الاختلاف هنا سوف يصبح حاداً جداً، حيث عدم وضوح الرؤية حتى الآن نحو الكثير من الأحداث، ومن جهة أخرى، فما زال الإعلام بمختلف وسائله يحاصر العقل المصرى فى صور عديدة، مما جعل هناك حالة من الاستقطاب الحاد، لم تفلح المناقشات فى تضييق هوتها فى معظم الأحيان.

هذه الأوضاع متكاملة تطرح تساؤلات مهمة فى هذه الآونة حول المناهج الدراسية بعد أن كثر اللغط حولها، وهى: من هو صاحب الحق فى وضع هذه المناهج المتعلقة بالتاريخ، والدراسات، والتربية القومية لأبنائنا التلاميذ فى المراحل المختلفة حول هذه الحقبة تحديداً، فترة ما قبل الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، وما بعدها حتى الآن، وإلى أى أيديولوجية ينتمى ذلك المفوض بالحكم على كل ذلك التاريخ ومجرياته، ومن الذى اختاره للقيام بهذه المهمة، ومن الذى راجع من بعده، ومن الذى يستطيع محاسبته فيما بعد، إذا لم يكن لدينا ما يشبه اتفاقا عاما حتى الآن على الكثير من الأحداث.

خلال الأيام الماضية، كان هناك شد وجذب حول واقعة حذف اسم الدكتور محمد البرادعى من المناهج الدراسية، فقط كأحد المصريين الحاصلين على جائزة نوبل للسلام، وهى واقعة فى حد ذاتها كافية للإشارة أو للتدليل على أننا أمام مأزق حقيقى، يؤكد أن الأمر ليس فى أيد أمينة أبداً، ليس هناك إحساس بأى مسؤولية تعليمية، أو وطنية، أو تنويرية، أو أخلاقية، كما ليس هناك الإحساس الوظيفى، الذى يحتم على هذا المؤرخ أو ذاك تأدية مهام عمله دون نوازع شخصية.

قرأت فى أحد هذه الكتب التى يدرسها أبناؤنا التلاميذ فى المرحلة الإعدادية، تحت عنوان، أسباب قيام ثورة ٢٥ يناير، «انشغال الدولة بمشروع توريث الحكم لنجل الرئيس الأسبق»، بالتأكيد لم يدلل المؤلف على ما يقول، ولن يستطيع، لأنه لم يثبت حتى الآن، ولا يوجد دليل واحد على صحة هذا الكلام المرسل، الذى لن تسمعه سوى من بعض برامج الردح الفضائية الليلية، أو على المصاطب والمقاهى، مادام لا أحد يحاسب أحداً.. الأغرب من ذلك هو السبب الآخر فى قيام الثورة وهو: حدوث اتفاق بين القائمين على السلطة وبعض رجال الأعمال بشأن استنزاف ثروات البلاد، لنا أن نلاحظ تعبير «اتفاق»، نحن إذن أمام أسباب كان يجب محاكمة المسؤول عن وضعها، بتهمة افتقاده النزاهة والأمانة.

الأكثر غرابة، هو أن تتضمن تلك الكتب أسماء بعض المتهمين، أو الواردة أسماؤهم فى قضايا التمويل الأجنبى، أو الصادرة ضدهم أحكام قضائية بالفعل، أو الممنوعين من السفر لمثل هذه الأسباب، أو المنبوذين شعبياً، كقادة لتلك الثورة، كنماذج من المفترض أن يقتدى بها التلاميذ، هؤلاء لمن لا يعرفهم، وبمرور السنوات، سوف يتخيل أنه أمام سعد زغلول آخر، أو أحمد عرابى آخر، لن يجد هذا الطالب أو ذلك المواطن من يوضح له أن ذلك الشخص كان مدمن بانجو مثلاً، أو أن هذه السيدة قد أثرت ثراء فاحشاً جراء هذه الأحداث، لأنها كانت تتلقى تمويلاً من الخارج، أو أن هؤلاء كانوا مجموعة من المتهمين فى العديد من القضايا آنذاك.

أما إذا كان المؤلف على حق، فإننا فى هذه الحالة يجب أن نعترف بأن الدولة الرسمية على باطل، حيث هذا محبوس، وذاك ممنوع من السفر، والآخر مطارد، لكن فى كل الأحوال نحن أمام كارثة، وهى تعليم أبنائنا التلاميذ تاريخاً مزيفاً من كل الوجوه، فى أشخاصه، كما فى وقائعه، كان الأجدر به أن يتضمن الحقيقة، وهى ذلك الانقسام الحاصل فى الشارع حول كل شىء تقريباً، خاصة أن من يتلقون هذه الدراسات الآن قد عاصروها، أو على الأقل، عاصرها آباؤهم وأمهاتهم، الذين سوف يشرحون لهم الحقيقة بلا رتوش.

بعد سنوات طويلة من أحداث ٢٣ يوليو ١٩٥٢، بدأ الناس يتكلمون ويجاهرون، بل يؤرخون رسمياً، على أنها كانت انقلاباً وليست ثورة، ذلك لأن تكميم الأفواه فى ذلك التوقيت لم يكن يسمح أبداً بالمجاهرة بذلك، إلا أننا الآن ومع تقنيات التواصل الاجتماعى وتطور وسائل التعبير والاتصال كان الانقسام واضحاً منذ اللحظة الأولى حول كل شىء، ٢٥ يناير ثورة أم انتفاضة، ٣٠ يونيو ثورة أم انقلاب، الأسباب المختلفة لهذه وتلك، أداء المجلس العسكرى، لجنة كتابة الدستور، انقسام حول أحداث ميدان رابعة، كما أحداث شارع محمد محمود، كما أحداث منطقة ماسبيرو، انقسام حول الحكم على الأعوام الثلاثين، بل الستين التى سبقت ٢٥ يناير، كما الانقسام على طريقة إدارة الأزمة خلال السنوات الخمس الماضية، بل هناك انقسام واضح حول الحكم على المشروعات التى يتم الإعلان عنها الآن.

من الذى يحق له إذن تدوين ذلك التاريخ أو كتابته، ليس فى شكل مذكرات يقتنع بها من يريد، وإنما ككتب دراسية يتعلم منها النشء، يجب أن تكون المصداقية فيها هى الأساس، وليست النوازع الشخصية، أو حتى ضغوط المرحلة، ذلك لأن إعادة كتابة ذلك التاريخ مستقبلاً تصبح أمراً بديهياً برؤى أكثر أمانة حتى لو بعد حين، والخاسر فى كل الأحوال هو التلميذ الذى نُسهم، ونحن ندرى، فى إصابته بحالة اضطراب معرفى، قد تؤثر على سلوكه الحياتى والوظيفى مدى الحياة.