( 1 )
حين يصف الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه بأنه «طبيب ينشغل الفلاسفة والمفكرون والاستراتيجيون والساسة فى العالم كله بما يقوله» فنحن أمام حاكم لديه شعور بأن ما فى رأسه وما ينطق به لسانه ثمين إلى أقصى حد. وحين يكرر أمام الحاضرين حتى لو كانوا بالآلاف: «أعرف مشاكل مصر كما أعرفكم، وأرى حلولها كما أراكم» فنحن أمام حاكم يدرك أنه مكتف بما لديه.
وطالما أن الرئيس يرى نفسه طبيبا بارعا يشخص وحده الداء، ويصف وحده الدواء، فلا شك فى اعتقاده بأنه ليس فى حاجة إلى غيره، حتى لو كانوا أطباء أدنى درجات يساعدونه، أو حتى إلى إدارة وسكرتارية وممرضين وممرضات يجهزون له غرفة العمليات قبل دخولها، أو عمال ينظفون له المكان، ويصبون المحاليل المطهرة على يديه بعد أن يفرغ من إجراء عملية جراحية ناجحة لمصر كلها، وحتى هؤلاء إن وجدوا فقد لا يراهم، أو لا يرى لوجودهم فائدة، ولجهدهم جدوى.
لكل هذا لم يجد الرئيس نفسه فى حاجة إلى تحديد برنامج حين قرر ترشيح نفسه، ولما طالبه كثيرون من العارفين بكيفية إدارة الدول بهذا، لم يعتن بمطلبهم، ورآه تزيّدا منهم، وقال «البرنامج موجود» متذرعا بأن «مقتضيات الأمن القومى تمنع إعلانه»، وها هو الرئيس يضطر بعد عشرين شهرا، رغم أنه لا يزال يتحدث عن الأمن القومى بالطريقة نفسها، أن يعلن عما يسمى «مصر 2030»، ويأمر بطباعة كتاب فاخر يحوى هذا التصور المنقوص، على عجل، بعد أن أدرك خطورة أن يبقى فى الحكم بلا إطار أو مرجعية يعرفها الناس.
وحين طالبه آخرون بـ «فريق عمل» يحيط به أو تكوين «مؤسسة رئاسة» لم يستجب أيضا ولا يزال، والوقت يضيع، ولا يعرف المصريون من يساهم فى صناعة القرار فى بلد كبير، مثقل بالمشكلات، مثل مصر، ولا أعتقد أن الأجهزة الأمنية، التى لا تعرف من السياسة ولا فيها، وتفتقر إلى رجال الدولة، بوسعها أن تعوض هذا النقص، أو ترمم هذا الشرخ، الذى يبلع أشياء كثيرة، ويظهر عورات أكثر.
لم يأت السيسى من مسار سياسى، إنما عبر مباشرة وفى ظرف تاريخى استثنائى من المعسكر إلى القصر، ولا بد من أن يدرك أن الطريقة التى يدار بها الأول تختلف كلية عن تلك التى يدار بها الثانى. والسؤال الذى يفرض نفسه الآن: كم تتحمل مصر من الأخطار والأعباء والأثمان الباهظة حتى يحدث هذا الإدراك المهم؟، ومتى يعتقد الرئيس أنه فى حاجة ماسة إلى من يعوضون ما ينقصه لا أن يقابلهم بين حين وآخر فى حملات علاقات عامة، لا تسمن ولا تغنى من جوع؟.
( 2 )
نتحدث كثيرا عن فساد المحليات، الذى وصل إلى الركب، كما سبق أن اعترف زكريا عزمى مدير مكتب الرئيس المخلوع حسنى مبارك، ووصل الآن إلى الرقاب. نسهب فى الحديث عن هذه المأساة ونطالب بالإصلاح، لكن من الغريب أن يتجاهل المتصايحون والمتناقشون والمتضررون جميعا من فساد الإدارة المحلية وتخلفها وبطئها وترهلها، أن أغلب من يديرون الجهاز المحلى فى مصر هم من بين اللواءات المتقاعدين من الجيش والشرطة.
رغم كل هذا لا يزال كثيرون فى بلادى يعتقدون أن هؤلاء هم الأجدر والأقدر على الإدارة، وهى كذبة تم تكريسها على مدار العقود الفائتة حتى صارت عند المتعجلين والغافلين واللامبالين حقيقة، لا تقبل الجدل ولا النقاش.
( 3 )
«عامل من بنها».. هذا مثل شاع فى الحياة الاجتماعية المصرية للبرهنة على أن شخصا ما لا يبالى بما يجرى حوله، أو يحاول أن يظهر أن ما يقال أو يفعل أمامه لا يعنيه، وهذا ما فعلته بالضبط السلطات فى بلادنا حيال ما نشر من وثائق تدين مجددا مبارك وأسرته، وتضيف إلى سجلها الفاسد فسادا جديدا، مع كامل الاعتذار لأهالى بنها الطيبين، الذين لا أظنهم هكذا أبدا.
فلا رأينا أحدا، حتى الآن، من الرسميين عقب على هذا الكلام بما يكافئ خطورته، ولا رأينا البرلمان، المفترض أنه يمثل الشعب الذى نهبت أمواله، يشكل أى لجنة، أو يتخذ أى قرار، أو يخترع أى آلية، أو يكلف أيا من أعضائه، ليتتبع الأمر.
كل ما جرى أن هذه الواقعة تحولت إلى فرصة سانحة للنقاش من جديد بغية الإجابة عن أسئلة من قبيل: هل مبارك عزل أم خلع أم تخلى وتنحى؟ وهل الملايين الذين فاضت الشوارع بهم فى احتجاج ضده كانوا ثوارا أم متآمرين (يا للعجب)؟ وهل هذه مؤامرة جديدة على البلد ترمى إلى إغضاب الناس فيهبطوا إلى الشوارع مطالبين باسترداد ما نُهب؟ وهل المجلس العسكرى الذى كلفه مبارك بإدارة شؤون البلاد، وذهب إلى منتجعه فى شرم الشيخ، وعد مبارك بأن يبقى على ماله وحاله دون مساس؟... إلخ.
ما جرى بالأمس فى إعلامنا ومؤسساتنا هو دليل دامغ على ما تردت إليه أحوالنا من عمى. فكل المغالطات المنطقية فى النقاش، المتعارف عليها بين الفلاسفة، قد مورست، وابتعد المتحدثون والمتكلمون والمتداخلون والمتفيهقون والمتعالمون عن جوهر الموضوع، وخاضوا فى المظهر، وتركوا المتن الغليظ المخيف ورقصوا فى الحواشى الباهتة عرايا.
وأكبر مغالطة منطقية، تجافى التفكير العلمى السليم، هى تلك التى ضاهت بين زمن مبارك وزماننا، وحملت ثورة يناير العظيمة مسؤولية ما جرى، مع أن المنطق العلمى يقول إن كل ما فعلته الثورة هو أنها قد رفعت الغطاء عن إناء عفن يغلى، فلما شم الناس الرائحة الكريهة راحوا يهاجمون من رفع الغطاء، وتركوا من ترك ما فى الإناء حتى يتعفن، ثم وضعه على نار تلظى، كى ينفجر فى وجوهنا جميعا. ولدىّ فى هذا المقام، كما سبقت أن برهنت بأدلة علمية، على أن كل ما يجرى هو ما فعله بنا مبارك، الذى حكمنا ثلاثين عاما تضاعفت فيها المعارف والتقنيات البشرية آلاف المرات بعد أن تسارعت بشكل مخيف، فازدادت، بفضل تبلده وتخلفه وهيمنته على كل القرار، الهوة بيننا وبين العالم المتقدم.
إن القضاء المصرى قد أصدر حكما نهائيا يقول إن مبارك قد «كسب كسبا غير مشروع»، وباتت فى عنقه الآن جريمة مخلة بالشرف، ومع هذا يتبجح بعض فتية، لا أعلم من يحركهم ولا ما يحركهم، ليدافعوا عن شرفه ونزاهته، بل وصل الأمر بهم إلى أن يقولوا زورا وبهتانا «إنه هو الذى بنى الجيش المصرى»، مستغلين رمادية السلطة حيال الثورة على نظام مبارك بوجهيه (الحزب الوطنى ـ الإخوان)، فلا هى معها ولا تجاهر صراحة بأنها ضدها، خوفا من عواقب لن تتحملها.
يا سادة لقد تعامل العالم كله مع وثائق بنما بالجدية التى تستحقها، بينما رحنا نحن كالعادة، نهرب من الموضوع الأصلى، ونستسلم لحديث المؤامرة، فأبشروا بطول سلامة أيها اللصوص، وليجلس الشعب كله فى الميادين والمصاطب وسطوح المنازل وشطوط الترع يردد بيت المتنبى:
(نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. وقد بشمن وما تفنى العناقيد).