منذ اللحظة الأولى التي انتشرت فيها أخبار اختفاء الباحث الإيطالى «جوليو ريجينى»، وأنا أشعر بأن اختفاءه لم يكن صدفة، لكنى آثرت الانتظار ومتابعة ورصد الأحداث المتلاحقة التي تبعت هذا الاختفاء ومن ثم العثور عليه مقتولا، انتهاء بالرواية الساذجة التي توصل إليها عقل الداخلية وأعلنت عنها لتزيد الطين بلة وتصب الزيت على النار.
وبغض النظر عن كل ما قيل ولايزال حول شخصية الشاب الإيطالى سواء كان جاسوسا يبعث بتقارير خطيرة لجهة ما في الأمم المتحدة أو على علاقة بجهاز مخابراتى، أو باحثا أكاديميا جاء مبتعثا من جامعة كامبردج البريطانية من أجل دراسة الدكتوراه عن النقابات العمالية في مصر، فإن السلطات الإيطالية منذ اللحظة الأولى لاختفائه وهى تدرك يقينا أن بصمة أجهزة الأمن وراء مقتله، وأن أياديهم متورطة ومفضوحة في هذه العملية، وعلمت من مصادر موثوقة أن الإيطاليين طلبوا من المسؤولين في مصر بعد اختفاء ريجينى مباشرة بالإفصاح عما حدث له ولو باليسير من التفاصيل لحفظ ماء الوجه أمام الشعب الإيطالى وعدم تصعيد الموقف كى لا يؤثر على العلاقات المشتركة بين البلدين، غير أن المماطلة والمراوغة كانت السمة الغالبة على ردود الجهات المسؤولة عن التحقيق، ولم يستطع الوفد الإيطالى الحصول على أي معلومات تفيد التحقيق، وفى معظم الوقت كانت التحقيقات بالنسبة للإيطاليين غير مفهومة ومجتزأة من سياقها؟!.
الآن ومع تصاعد الموقف وتعالى الأصوات المطالبة بالكشف عن حقيقة مقتل ريجينى سواء في إيطاليا أو مصر، فإن الوضع أصبح أكثر ارتباكا، خاصة في إيطاليا التي تستعد للانتخابات مع تصاعد الهجوم من مسؤولين إيطاليين على رأسهم رئيس الوزراء السابق «انريكو ليتا» الذي شكك في بيان وزارة الداخلية المصرية واعتبره قصة لا يصدقها عقل أو منطق مطالبا حكومته بالوصول إلى الحقيقة من أجل ريجينى، بالإضافة إلى وزير الخارجية الحالى «باولو جانتيلونى» الذي أكد أن الحكومة الإيطالية ستتخذ إجراءات فورية ضد مصر حال عدم تعاونها للكشف عن حقيقة مقتل جوليو ريجينى، فيما لمح «أليساندرو دى باتيستا» النائب عن حركة خمسة نجوم إلى أن الحكومة الإيطالية مهتمة بتطوير إينى الإيطالية لحقل الغاز الطبيعى المصرى الضخم أكثر من اهتمامها بريجينى، وقال إن الروايات المصرية لا أول لها ولا آخر لكن يبدو أن النفط أكثر أهمية من مقتل أحد مواطنينا؟ هذا فضلا عن عائلة ريجينى نفسه التي تضغط شعبيا على الحكومة الإيطالية والبرلمان لإظهار حقيقة مقتل ابنها.
في الموروث والتراث الشعبى الإيطالى، ثمة قناعة لدى الإيطاليين بأنه لابد من الحصول على حقهم حتى ولو بعد حين، وترسخت هذه القناعة منذ عام 1891 حين قتل 11 رعية إيطالية في أمريكا بوحشية دامية من جمهور الأمريكيين في ولاية «نيواورلينز»، وهو تراث لايزال ماثلا في أذهان المسؤولين الإيطالين فضلا عن الشعب الإيطالى ذاته، وهذا يفسر تصاعد وتيرة انتقاد السلطات الإيطالية للأداء المصرى في التحقيقات لإجلاء الحقيقة، خوفا من الضغط الشعبى الذي بدأ يتصاعد بالتزامن مع ازدياد المظاهرات المطالبة بمعرفة ما حدث لريجينى، وفى ظل ظروف حرجة تعيشها إيطاليا وهى على مشارف الانتخابات، كما أن إيطاليا غاضبة من سير التحقيقات وظهر ذلك واضحا في تصريحات رئيس وزرائها «ماتيو رينزى» الذي طالب مصر أن تكون صريحة وواضحة في التحقيقات، وقال إنه لن يقبل سواء هو أو حكومته أو شعبه على الإطلاق أي معلومات مزيفة حول الحادث، مطالبا القاهرة بتقديم حقائق دامغة لا تقبل الشك.
للأسف الالتباس والشائعات وتضارب التصريحات حول قضية ريجينى أساءت كثيرا لمصر وأعطت الفرصة للمتربصين للهجوم وإطلاق عنان الاتهامات، وإن كان هناك ظل من الحقيقة في هذه الاتهامات فإن التعامل مع القضية باستهانة منذ البداية وانعدام الشفافية ساهم بشكل مباشر في تصعيد تداعياتها، وإذا كانت الدواعى الأمنية قد حدت بإخفاء المعلومات وسرية التحقيقات كون الضحية شخص غير عادى، فكان الأولى بجهات التحقيق التعامل بحرفية أكثر مع القضية نظرا لحساسيتها، أما لو كان هناك شكوك حول ريجينى فكان الأدعى بالجهات الرسمية استدعائه ومثوله للتحقيق بشكل قانونى أو حتى ترحيله من البلاد كشخص غير مرغوب فيه وهذا حق للدولة كان سيفوت الفرصة على أي تربص أو هجوم نواجهه الآن.
إن عجز السلطات المصرية في إقناع السلطات الإيطالية حول التوصل لقتلة ريجينى يمس بالأمن القومى لمصر، خاصة أن إيطاليا تقول إن مصر رفضت تسليمها أدلة قتل التشكيل العصابى للطالب الإيطالى، كما أن القانون الدولى في هذه الحالة واضح فمقتل الرعية الأجنبى في إقليم الدولة التي يقيم فيها لا يغل سلطة دولته في ممارسة حمايتها الدبلوماسية لهذا الشخص، وتعد معرفة حقيقة ملابسات الحادث الإجرامى أحد الحقوق الدنيا التي تطالب بها دولة الأجنبى التي كان يقيم فيها ذلك الأجنبى، ودولة الأجنبى وليس عائلته هي التي تمارس هذه الحقوق لدى الدولة الأجنبية، لذلك أصبحت قضية «دولة ضد دولة» بعد تبنى إيطاليا واجب حمايتها الدبلوماسية لمواطنها الإيطالى، وهذا في حد ذاته يضع الدولة المصرية في مأزق دبلوماسى وسياسى مع إيطاليا لا نعلم إلى أين سيصل؟ فهل سيكون لدى الوفد الأمنى المصرى الموفد إلى إيطاليا ما يقنع الأخيرة لإغلاق هذا الملف؟؟