تحت لافتة مكتوب عليها «امنعوا النقاب» كتب آخر: (بل امنعوا البكينى، والكباريهات، والخمور، والرشوة، والفساد، والمحسوبية، والغش، والتزوير، والعرى، والإسفاف، أنتم تدعون للتطرف من حيث لا تشعرون)، أعتقد أن التعليق خَلَط الأوراق كثيراً، إلا أنه أكد رؤيته أن مثل هذه الدعوات تؤدى إلى التطرف، بدليل أنه تطرف هو الآخر بعيداً عن القضية الأساسية دون أن يدرى.
هي دعوة أطلقها البعض تحت عنوان «مبادرة منع النقاب»، لا أدرى إلى أي قاعدة اجتماعية أو سياسية أو قانونية استندوا، ولا أدرى بتفويض مِمن عقدوا مؤتمراتهم الواضحة في الصور، ولا على أي تصريح حصلوا، فقط ما أدركه جيداً هو أن مثل هذه الدعوات تقود إلى الفوضى والتطرف كما قال صاحب التعليق، هي دعوات مستفزة وغير مدروسة بأى شكل من الأشكال.
معلوم أننا دولة بلا هوية ثقافية واضحة، ما يتعلق بالأزياء منها بصفة خاصة لا يخضع لأى اعتبارات دينية، أو ثقافية، أو تاريخية، هناك فقط اعتبارات جغرافية وعرقية في بعض مناطق الشمال والجنوب، اعتبارات أخلاقية في المناطق الريفية، اعتبارات التقاليد في المناطق الشعبية، إلا أن كل قوى الاستعمار التي مرت بمصر- وما أكثرها- تركت جميع أنواع البصمات فيما يتعلق بهذه القضية، وما أكثرها أيضاً!
ربما في برّ المحروسة فقط سوف تشاهد في آنٍ واحدٍ الجلباب البلدى، الدشداشة الخليجى، العباءة المغربى، الطربوش، الطاقية الفلاحى، الكاب، البرنيطة، الشورت، البنطلون الجينز، البدلة، الملاية اللف، المينوچيب، الميكروچيب، الاستريتش، الفستان، طال أو قصر، الحجاب، الخمار، النقاب، الإيشارب على ملابس كاشفة، أو على ملابس فضفاضة، العباءة، الإسدال.. من الآخر: على كل لون يا باتيستا.. سمك، لبن، تمر هندى.
هل هناك الآن جهة مخول لها حسم هذا الأمر، هل هناك جهة مفوضة بوضع ضوابط لهذه القضية، هل الدولة أخيراً قررت أن يكون هناك زى رسمى للرجال والنساء على السواء، هل قررت الدولة وضع مبادئ للهوية الثقافية، تأخذ في الاعتبار التاريخ والجغرافيا والدين والتقاليد والإقليم الذي نعيش فيه بصفة عامة؟!، أعتقد أن الأمر ليس كذلك أبداً، نحن أمام نوازع شخصية، في معظم الأحيان أيديولوجية، على كل الأصعدة، من يدافع عن النقاب يقف خلف أيديولوجية دينية، ومن يقاومه ينطلق من أيديولوجية علمانية، هو صراع فرض إرادات في النهاية، لم يضع في الاعتبار أبداً الحرية الشخصية لهذا الشخص أو ذاك.
من الطبيعى أن تطلب من إحداهن خلع النقاب فتطالب هي بخلع الميكروچيب، ومن الطبيعى أن تطلب من إحداهن خلع الحجاب فتطالب هي بمنع الاستريتش، ومن الطبيعى أن تطلب من إحداهن عدم التبرج في استخدام أدوات الزينة فتطالب هي بخفض صوت المرأة لأنه عورة، من نعتبرها على خطأ قد تكون معها من الحجج والأسانيد الثقافية والدينية والمجتمعية ما يدعم موقفها، بالتأكيد لن تُقدم هذه أو تلك على ارتداء أي من الأزياء إلا إذا كانت على قناعة كاملة بما أقدمت عليه.
من يحق له إذن أن يفرض على المجتمع هذا الزى أو ذاك، من له الحق في ازدراء هذه الفتاة أو تلك؟ أعتقد أننا بالفعل أمام ممارسات لن تسفر في نهاية الأمر إلا عن مزيد من التشدد، يقودها، للأسف، البعض من أدعياء الحرية والديمقراطية والشفافية، والكثير من المصطلحات التي يستخدمونها فقط وقتما يشاؤون، حينما تتوافق مع نزعاتهم أو مع تحقيق أهداف ما.
بدا واضحاً أيها السادة أن هذه التعددية، أو هذه الخلطة، هي سر انبهار الآخرين بمجتمعنا، القناعة في النهاية هي التي تفرض نفسها، دون توجيه ودون إرغام «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، لا مجال إذن لأولئك الذين يريدون بين الحين والآخر تنصيب أنفسهم أوصياء على المجتمع، وإلا لكان من حق الطرف الآخر، متشدداً أو متطرفاً أو متزمتاً، أو سمّه ما شئت، أن يفرض هو الآخر نفسه، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية.
للأسف، هناك من يراها فترة تراجع إسلامى أو دينى بشكل عام، هناك من يراها فرصة لفرض معتقداته أو نزواته، هناك من يراها مناسبة لنشر أيديولوجياته، بالتأكيد هو تصور خاطئ، لم يضع في الاعتبار أنه يتدخل في صلب الحرية الشخصية للأفراد والمجتمع ككل، وهو الأمر الذي لا تحكمه أو تفلح معه أي مؤتمرات، أو قرارات، أو حتى أحكام قضائية، هي فقط مدعاة لمزيد من الأزمات المجتمعية، وملهاة لأولئك الغافلين عن الحقيقة.