من الأمانة أن نقول، إن جزءًا كبيرًا مما تعانيه الصحافة المطبوعة في مصر يعود لظروف خارجة عن إرادتها، مثل الوضع الاقتصادي الصعب، وارتفاع أسعار الأحبار والورق نتيجة ارتفاع سعر الدولار، علاوة على تأثير التطور الكبير للأدوات التكنولوجية وإتاحتها الواسعة وانخفاض ثمنها، ما أثر على ضعف إقبال الناس على الصحف بشكل عام.
(وإن كان هذا لم يؤثر على مبيعات الكتب في مصر، التي تشهد نموًا ملحوظًا)
ومع ذلك لا يمكن إغفال أن جزءًا كبيرًا أخر من مشكلة الصحافة المطبوعة يعود لأسباب داخلية، بدءًا من عدم الشفافية في إعلان مشكلاتها وتحدياتها، بل وإنكارها وتجاهل مؤشرات تدني أرقام التوزيع، مرورًا بعدم ملائمة أغلب المحتوى، الذي يقدم لما يحتاجه القارئ فعليًا، وصولًا لعدم وجود حوار جاد بين المؤسسات الصحفية المختلفة، من أجل أن تعمل سويًا على أفكار وحلول مشتركة.
*****
لن أتوقف عن تكرار أن أكثر من نصف الحل المتروك في يد الصحف المطبوعة يعود لتطوير المحتوى والقائمين عليه، بتوفير البيئة العادلة والمحترفة، من تدريب وتطوير وتوفير أدوات وأجور عادلة، تعطي للمؤسسات حقها في تفرغ الصحفي الكامل لتقديم أفضل ما عنده من محتوى، ليتوقف عن أن يقضي يومه في القفز من مكان لمكان ومن سبوبة لأخرى، ليخرج الجميع رابحًا من هذه المعادلة.
التدريب والتطوير عنصران مفصليان في إنقاذ الصحف المطبوعة من مصيرها، وهو بداية طريق الحل لتعي أن الوجبة الخبرية المعتادة فقدت صلاحيتها وانعدم الطلب عليها، ويجب أن تكون البُصلة في اتجاه المحتوى التقريري والتحليلي، والمحتوى الخدمي والترفيهي وأيضا المحلي، مع الاستعانة بصحافة البيانات، التي يجب أن توظف بصورة أكبر. (راجع المقال السابق)
وعلى نفس خط تطوير المحتوى الصحفي، يجب أن تكون هناك ثورة في الإخراج الصحفي، لتكون أقرب للصحف الأسبوعية منها لليومية، خاصة وأن حوالي من 70% إلى 80% من الصفحات، التي تنشرها الصحف هي في الأصل «مبيتة» من يوم أو يومين، فلماذا لا يستثمر فيها بصورة صحيحة، ليكون هناك إخراج مبهر «متكلف»، مع توظيف محتوى الجرافيك والكاريكاتير وكل فنون الصورة.
يجب أيضا أن يتم التفكير في دور الصفحة الأولى في عصر ما بعد الصحف الخبرية اليومية، لتكون الصورة الموضوعية و«الجرافيك» و«المانشيتات» والإشارات الترويجية للمحتوى الداخلي أبطال الغلاف، ولا مكان للصورة الشخصية التقليدية للمسؤولين، بصراحة لم تعد تجذب أحدًا، ولو لزم نشرها، فلتكن مرسومة بطرق مختلفة تعبر عن مضمون القصة وتروج لها، وليس مجرد تسكين وحشو.
تقريبا هناك من 20% إلى 30% من القراء في مصر يشترون الصحف بناءعلى جاذبية ما يرونه عند «فرشة» بائع الجرائد، وهنا يلعب الإخراج و«المانشيت» الساخن الدور الأكبر في حسم قرارهم؛ ولو كان الأمر بيدي، لقمت باستنساخ الدكتور أحمد محمود، أستاذ الصحافة، وصاحب المدرسة الفريدة في الإخراج الصحفي، أو بالأحرى مدرسة تجديد الشكل الصحفي، ليكون التطوير والتغيير والتجربة المجنونة أحيانا مفردات أساسية على طاولة أي غرفة أخبار.
أمثلة لبعض أشكال الإخراج الصحفي الحديث
*****
في مصر المؤسسات القومية الثلاثة تحتكر تقريبًا سوق الطباعة، وتعمل ماكيناتها وفقا لتقنيات طباعية قديمة نسبيا، وبعضها يعمل بقطع غيار غير أصلية فتستهلك الكثير من الأحبار، ووحدها مطابع صحيفة الأهرام عليها عبء طباعة حوالي 70% من الصحف اليومية في مصر.
أنا لست خبيرًا في شؤون الطباعة، ولا أعرف إذا كانت الطباعة الرقمية وصلت لمرحلة تجعلها خيارًا اقتصاديًا أم لا، ولا أعرف على وجه اليقين لماذا لا تستخدم الصحف مقاسات ورق مختلفة عما اعتادت عليه من 50 عاما وأكثر، هل لا يوجد أحد لديه جراءة التجربة؟
في الهند، تثتثمر الآن تجربة فريدة بدأت قبل خمس سنوات، وجعلت الصحف تسجل نموًا سنويًا في توزيعها يتراوح بين 6% إلى 8% سنويا، وهي في مجملها تجربة متميزة يجب أن تدرس بعناية كبيرة، خاصة وأن الظروف الاقتصادية والثقافية متقاربة مع مصر.
التعاون والشراكة بين المؤسسات الصحافية أحد أسرار التجربة الهندية، فالجميع التقى تحت شعار المصلحة ولا شيئا أخر، فبدأت نماذج متعددة للتعاون في مطابع حديثة مشتركة، أو مطابع صغيرة في حجرة أقل من 30 متر، أو توزع بطرق مبتكرة تركز أكثر على الأماكن البعيدة النائية، مع مبادرات إعلانية جديدة، بعضها غارق في المحلية، بالإضافة إلى توزيع مشترك، أو توزيع مع مؤسسات تجارية أخرى.
وهو ما يختصره جاكوب ماثيو، المدير التنفيذي لمجموعة مالايالا مانوراما الهندية، قائلًا:«الابتكارات التكنولوجية في الطباعة ساعدت على تقليل التكاليف، مع مشاركة المنشئات والمعدات مع المؤسسات الأخرى، بدلا من شراء أخرى».
السؤال الآن، هل يمكن أن ترسل الصحف المصرية من يدرس ويحلل ويأتي بالخلاصة والتوصيات من هذه التجربة؟
المزيد من تفاصيل تجربة الهند من هنا.
*****
في مقال سابق تحدثنا عن أن أحد أسباب بقاء الصحف الأمريكية على قدميها يعود لزيادة نسبة الاشتراكات فيها؛ ورغم أن الوقت متأخرًا نسبيًا على أن تكون هناك مبادرات في مصر لزيادة نسبة الاشتراكات خاصة في المنازل.
ولكن أن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي أبدا، ويمكن أن تحدث المعجزة، بالكثير من الأفكار والعروض والتخفيضات ورصد الجوائز والسحوبات، والتوزيع المشترك مع مؤسسات أخرى، مع الوصول لأماكن بعيدة جديدة، كل هذا وأكثر يمكنهأن يحرك المياه الراكدة.
وطبعا، طبعا كل ما سبق- وما يلحق-سيكون عديم الجدوى إذا لم تغير الصحف اليومية من محتواها، وتتوقف عن ملاحقة الأخبار، وتتفرغ لمحتوى جديد كليًا، يجذب القارئ ويعيد بعض الذين هجروا الصحف وفي قلوبهم بعض الحنين لورقها وحبرها.
وعلى إدارات الصحف أن تنفصل قليلا عن عمليات التشغيل اليومية، وتقوم بتحليل بيانات شرائح القراءة المختلفة.
لتجيب على أسئلة بسيطة مثل، من يقرأ الصحف المطبوعة في مصر؟
وأي محتوى يفضلونه؟
وكيف يمكن أن تستعيد الصحف شريحة أو عدة شرائح من نسبة الـ 70% التي خسرتها في السنوات الخمس الماضية؟
وكيف يمكن أن تقنع سكان المدن الجديدة وقاطني الـ«كومباوندز» بالاشتراك في الصحف؟
*****
في أمريكا اللاتينية صاحبة السوق الإعلاني الأكثر نموًا في العالم، تعقد الصحف مؤتمر إعلانيا سنويا لمبيعات الإعلانات المسبقة تحت اسم Preventas، حيث تأتي أغلب الصحف تقريبًا وتقوم بعرض حزم إعلانيةPackages للعام الجديد، فتقوم مثلا بوضع مساحات متميزة وأخرى متوسطة، مع عروض الرعاية والأماكن الإعلانية الثابتة، إلخ.
ومن جانبها تأتي الشركات المعلنة أو وكالات الإعلانات، ليقوم الجميع بالتعامل بـمنطق «الجملة» وحجز المساحات مسبقًا؛ وهكذا تبيع الصحف نسبة كبيرة من إعلاناتها مقدمًا، ويكون أمامها مساحة رؤية وتخطيط لعملياتها بناء نفقات وإيرادات متوقعة، ومن الناحية الأخرى يحصل المعلنون على أسعار أفضل أمام التزام إعلاني مسبق.
هل هناك ما يمنع من تكرار هذه التجربة في مصر؟
كلنا يعرف أن الكثير من موزعي الصحف الصغار يضعون بأنفسهم إعلانات محلية صغيرة، ماذا لو قامت الصحف بهذا بنفسها، ماذا لو بدأت في طبع إعلاناتCustomized حسب احتياجات المحافظات الإعلانية؟
يعرف الكثيرون أن مبيعات الصحف تكاد تغطي تكلفة الطباعة والتوزيع، ويبقى دخل الإعلانات ليكمل المعادلة ويحقق للمؤسسات بعض الربحية تنفق منها على المرتبات والتطوير.. ألا يستحق هذا أن تسعى الصحف بكل طاقتها لكي تغري المعلنين بالبقاء، وفقا لمعادلة تحقق الربحية لكافة الأطراف.
*****
قد تصلح هذه الأفكار أو بعضها لمصر، وقد لا تكون مناسبة؛ ولكن العبرة في ابتكار أفكار جديدة، والتحرك بشكل جماعي لصالح الصناعة، ولصالح بقائها لفترة أطول.
لا أريد أن أبدو منفصلا عن الواقع ومحلقا بأفكاري، ولكن هناك تجارب كثيرة استطاعت أن توقف انهيار توزيع الصحف المطبوعة، أو على الأقل جعلت انخفاضها بطيئا؛ ووحدها الصحف التي لم تحسب وتخطط وتبدع التي انهارت وأغلقت أبوابها.
وهنا في مصر يمكن أن يتكرر هذا، إلا أذا لو اجتمعت كل أطراف الصناعة واعترفت بالمشكلة، وبدأت في حوار محترف وصادق.
بصيص الأمل والفرص الضئيلة، التي أمامنا قد تبدو صعبة الأن، ولكن خلال عام قد تكون مستحيلة.
ما يجب أن يبحث عنه الجميع الآن هو توفير بعض الوقت لمرحلة انتقالية، تبقى الصحافة المطبوعة على قيد الحياة، على الأقل لكي تستطيع أن تخرج من منظومة الإعلام الأحادي، للإعلام المتعدد، وتبدأ في ابتكار أشكال ونماذج ربحية وعائدات ممكنة من إنتاج الصحافة الرقمية، وهذه هي محطتنا التالية.
للتواصل مع الكاتب: khledpress@gmail.com