«.. وتتمتع مصر بموقع جغرافى متميز في قلب العالم.. فهى تربط بين كل القارات.. وتقع على البحرين المتوسط والأحمر.. وحباها الله بموارد طبيعية وبشرية ضخمة، ومناخ معتدل طوال العام.. أما اقتصادها فيعتمد على مصادر ريعية، هي إيرادات عبور السفن قناة السويس.. والسياحة.. وتحويلات العاملين بالخارج»..!
منذ ٤٠ عاماً أو يزيد.. كانوا يقولون لنا ذلك في المدرسة.. لم يكن غريباً آنذاك.. حتى حينما قالوا لنا إن اقتصاد بلدكم «ريعى».. لم نهتم بفهم العبارة ولا حتى الكلمة.. فلم نكن نعرف شيئاً عن العالم من حولنا.. أو قل إن «مصر كانت عند المصريين كل العالم»..!
حين كبرنا.. تغير كل شىء وأى شىء إلا هذه الفقرة في كتاب الجغرافيا.. غير أن أبناءنا يتوقفون ــ الآن ــ أمامها كثيراً.. وأنا كذلك..!
العالم بات بين أصابعنا.. ولم يعد بمقدور مناهج الجغرافيا والتاريخ أن «تسكب» في عقولنا العبارات والكلمات المتناقضة والمخزية، دون أن نتساءل: «هو فيه كده..»..؟!
كيف لبلد يتمتع بهذا الموقع الجغرافى العبقرى والطاقة البشرية والموارد الطبيعية والمناخ الرائع أن يعتمد اقتصاده على رسوم عبور القناة والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج؟!.. هل يليق بنا أن نظل حتى العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين «شباك تذاكر» تحت رحمة عوامل وأوضاع خارج إرادتنا؟!
إذا تحولت التجارة العالمية إلى «طريق رأس الرجاء الصالح» انخفضت إيرادات القناة.. ومعها ــ قطعاً ــ بضعة الجنيهات التي في جيبك.. وإن «فرقعت بومبة» طائشة من مختل عقلياً أو إرهابى ــ لا فرق ــ طارت «دولارات» السياحة.. ومعها عقول وحياة ٥ ملايين أسرة.. ولو تراجعت تحويلات المصريين بالخارج نضب الاحتياطى النقدى.. وأفلت «الدولار» إلى السماء.. ومعه ــ طبعاً ــ أسعار كل شىء..!
أي دولة تلك التي تستعذب دور «المفعول به» بعجز واستكانة؟!.. وأى اقتصاد ذاك الذي يطمح إلى التعافى والانطلاق، وهو «كمسارى» أو محصل في «شباك» لرسوم وضرائب «ريعية»؟!.. تماماً مثل الرجل الذي يجلس على الشيشة طوال اليوم أمام عمارته «المتهالكة» وهو ينظر بين كفيه المتكلستين لبضعة جنيهات يجمعها من «الإيجار».. بينما ترتفع من حوله البنايات الشاهقة واحدة تلو الأخرى..!
البنايات وناطحات السحاب كثيرة من حولنا.. لم يعد أحد في العالم ينتظر زخات المطر من السماء.. فإن لم تمطر استمطرها.. وإن تمنعت وتعززت رفع «ساعديه» إلى السماء.. وأطلق عنان عقله.. وبـ«العقل والساعد» تُصنع المعجزات..!
يقول لى أحدكم الآن: أعطنى دليلاً أو نموذجاً..!
حسناً: اليابان لا تمتلك أي موارد طبيعية أو مواد خام على الإطلاق.. وبـ«العقل والساعد» تحولت إلى قوة اقتصادية عظمى.. وسويسرا لم يمنحها الله ما منحه لفرنسا مثلاً.. وبـ«العقل والساعد» أصبحت بنك العالم وقلب اقتصاده..!
نحن لا نؤمن ــ للأسف ــ بالعقل.. ولا نستنهض «السواعد» للعمل..!
نعيش جميعاً على «إيجار شقة قديمة».. وحتى نفهم أكثر.. علينا أن نسأل خبراء الاقتصاد في العالم: ماذا يعنى الاقتصاد الريعى؟!.. الإجابة: ضع نفسك بين يدى الظروف.. أنت تعتمد على «موارد» لم تصنع منها شيئاً.. الاقتصاد الريعى هو سحب دائم من «حساب ثابت».. أو هو متآكل أحياناً..!
«حساب مصر» في «بنك العالم» مدين.. ببساطة شديدة لأنها تقع على «ناصية» فتؤجر الناصية لـ«نصبة شاى وقهوة».. أو لأنها تمتلك ثروات طبيعية كبيرة.. فترسلها لـ«بشر» ليسوا مثلنا.. يصنعون منها سلعاً نستوردها منهم بعشرات المليارات من الدولارات.. أو لأنها تستدين من «دول ليست مثلنا».. وتترك الديون أحمالاً ثقيلة فوق رؤوس أبنائنا وأحفادنا..!
«حساب مصر» في اقتصاديات العالم «ض.ج».. ضعيف جداً.. لأنها لا تفكر.. لا تبتكر.. لا تنتج.. والأخطر أنها قانعة بما هي عليه.. لا أحد يساوره القلق: القناة شغالة.. تطلع تنزل.. آهى بتجيب قرشين.. السياحة مضروبة كام سنة.. ربنا يسهلها.. واللى رزق يونس في بطن الحوت هيرجع السائحين.. تحويلات المصريين بالخارج تنخفض.. ربنا مقلب القلوب.. وهو سبحانه «سيرقق» قلب «الكفيل» عليهم..!
.. وربنا لا يرزق «الخامل» والفاسد والمهمل.. حتى لو لم يغادر «سجادة الصلاة».. ونحن نفخر بأننا أمة صنعت التاريخ.. والله لا يُكرم شعباً بما فعله أجداده.. ثم من قال ــ أصلاً ــ إننا أحفاد الفراعنة..؟!
يسألنى أحدكم الآن: وما الحل؟!
الحل في «ماكدونالدز» و«كنتاكى».. وليس في «أبوشقرة» و«الرفاعى».. مصر الآن هي «الرفاعى» أو هي على أفضل تقدير «أبوشقرة».. كلاهما ظل عقوداً طويلة «قانعاً» بـ«المحل الشهير».. يفخران بتعليق لافتة كبيرة «ليس للمحل فروع أخرى».. كأنه إنجاز.. بينما أصبح لـ«ماكدونالدز» الذي بدأ بـ«محل» مشابه عام ١٩٥٤ أكثر من ٣٠ ألف فرع في ١١٨ دولة.. ولـ«كنتاكى» ١٨ ألف فرع في ١١٢ دولة.. وبين «أبوشقرة» و«الرفاعى» من جانب.. و«ماكدونالدز» و«كنتاكى» من جانب آخر فجوة فكر.. طموح.. إرادة.. وإدارة.. وهى ذاتها الفجوة الواسعة بين مصر والعالم..!
مصر ٢٠١٦.. ينبغى أن تنتج أكثر مما تستهلك.. تصدر أكثر مما تستورد.. تفتح شرايين جديدة في جسد اقتصادها: صناعة.. تكنولوجيا.. استثمارات.. وخدمات.. ودون ذلك ستظل «شباك تذاكر» لبضاعة «متهالكة».. أو محل «رفاعى» في حارة بالية.. ونكتب على صفحة النيل: ليس لنا فروع أخرى..!