المسؤولية

جمال أبو الحسن الأحد 03-04-2016 21:25

المسؤول هو من «يُسأَل» و«يُساءل» عن أمر من الأمور. المسؤولية ترتبط، لُغوياً، بمساءلة المرء عن فعله وقوله. وفى القرآن الكريم: «إن السمع والبصر والفؤاد كلُ أولؤك كان عنه مسؤولاً»، بمعنى أن الإنسان يُسأل عما اقترفت جوارحه من خطايا أو ذنوب. وفى القرآن أيضاً: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً»، والمعنى أن العهد التزام على من قطعه، ويُساءل عنه. وفى نفس الاتجاه: «ولتُسألن عما كنتم تعملون». الإنسان، بالتعريف، مسؤول. مسؤوليته نابعة- فى الأصل- من كونه إنساناً. من قدرته على التمييز بين الخير والشر. بين الصواب والخطأ. تلك هى المسؤولية الكُبرى. العبء الأعظم الذى يحمله الفردُ على ظهره.

غير أن الإنسان مجبولٌ أيضاً على التحلل من هذه المسؤوليات. على التخفف من تلك الأعباء التى ينوء بها وتقسم ظهره وتقض مضجعه. فى محاولاتهم الدائبة للتملص من المسؤولية يبحث الناس دوماً عمن يُلقون عليه باللوم، تماماً كما حمّل إخوة يوسف الذئب المسؤولية عن دمه. التحلل من المسؤولية يبدأ معنا من الطفولة الباكرة. «مش أنا والله»، هى أكثر كلمة ترديداً على لسان الأطفال. السببُ أنهم يدركون، كلما اقتربوا أكثر من عالم الكبار، أن أسهل طريقة للتخلص من مشكلة ما هى نفى مسؤوليتهم عنها كُلياً. يلتقطون هذا المعنى من الكبار الذين يحيطون بهم. تحمُل المسؤولية عن أمرٍ من الأمور، غالبا ما يجلب مُشكلات.

إحدى أسهل الطُرق للتملص من المسؤولية هى أن يدعى المرءُ أنه بلا إرادة أصلاً. أن هناك إرادة أكبر منه هى التى تدفعه وتحركه. أنه، والحال هذه، لا حيلة له حتى فيما يرتكبه من أفعال أو يتخذه من قرارات. المسؤولية تقع على هذه «الإرادة الأعلى» وليس عليه هو شخصياً. هنا أيضاً يُلخص القرآن الكريم هذا الموقف فى إيجاز مُحكم: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ». فى هذه الآية إشارة إلى ما سيحدث فى يوم الحساب. أصحاب الإرادة الأعلى (الذين اتبعهم الآخرون فى طريق المعصية خوفاً أو طمعاً) سوف يتبرأون من هؤلاء الذين اتبعوهم وساروا فى ركابهم. إنها إشارة واضحة إلى أن المسؤولية تقع فى النهاية على الإنسان نفسه، وليس على أى إرادة أخرى تُؤثر عليه، حتى لو كانت هذه الإرادة أكبر منه وأشد سلطاناً.

المسؤولية ليست فكرة فلسفية أو دينية فحسب، هى أيضاً مفهوم قانونى مُهم. أمام القانون، الإنسان فردٌ مسؤول عن فعله. المسؤولية هى جوهر أى نظرية قانونية من زمن «حمورابى» (الملك الذى حكم بابل فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد) وحتى زماننا الحاضر. حمورابى حاول التعاطى مع المسألة التالية: ماذا يحدث إذا قام ثورٌ مملوك لشخص ما بنطح ثور لجاره فتسبب فى مقتله؟. صاحب الثور المُعتدِى سوف يحاجج بأن ثوره هو من فعل ذلك، وأنه غير مسؤول عن هذا الفعل. قانون «حمورابى» يعتبر الشخص مسؤولاً عن «فعل ثوره». الشخص هنا يتحمل «المسؤولية القانونية» لأنه لم يربط ثوره جيداً. إنه واحد من أقدم المبادئ المُستقرة فى الشرائع القانونية على اختلاف مشاربها. على هذا المبدأ تأسست فكرة «المسؤولية» فى النظم القانونية الداخلية، وفى القانون الدولى أيضاً. ذلك أن القانون الدولى يُعامل الدول بوصفها «شخصيات قانونية». الدول أيضاً مسؤولة عما يصدر عنها من أفعال. والدول مثل البشر؛ بعضها يتحمل مسؤولياته وبعضها الآخر يميل إلى التحلل منها.

الدولة- أى دولة- هى فى النهاية حاصل لتكوين مُجتمعها والقيم السائدة فيه. بقليل من التأمل نُدرك أن مُشكلات وآفات كثيرة فى مجتمعنا يعود أصلها الأول إلى التملص من المسؤولية. من هذه البذرة الخبيثة، تنمو شجرة خبيثة تُظلل المُجتمع بأكمله وتحجب عنه منابع النور. هذا التملص يقبع فى الـ«دى إن إيه» المُجتمعى. فى أعمق أعماق الوعى والتكوين الأخلاقى والنفسى للفرد. جذوره البعيدة تعود إلى قرون الاحتلال والاستعمار الطويلة وما خلفته فى نفوس وضمائر الناس من شعور غائر بعدم مسؤوليتهم عن مصائرهم الشخصية، ناهيك عن مصير المُجتمع فى مجموعه. المسؤولية تنبع أولاً من شعور المرء بأنه المتحكم الحقيقى فى أفعاله. يتأسس على ذلك تحمل المسؤولية عن النتائج التى تتولد عن هذه الأفعال. إذا غاب الشعور الأول، مُستحيل أن يبرز السلوك الثانى.

والحال أن الثقافة السياسية للمصريين تتميز قبل أى شىء بانعدام المسؤولية. هناك دائماً نزوعٌ تلقائى لإلقاء اللوم على «الإرادة الأكبر». هكذا يتم ترحيل المسؤوليات دوماً إلى أعلى وأعلى. وعند وصول المسؤولية إلى أعلى نُقطة مُمكنة فى المنظومة، فإن شيئاً مُذهلاً يحدث: يجرى ترحيل المسؤولية إلى خارج البلاد كُلياً. هكذا، تُصبح أمريكا هى المسؤولة عن هزيمة 1967 كما جاء فى المكالمة التليفونية الشهيرة بين عبدالناصر والملك حسين. وهكذا، تصير «قوى أكبر منا» هى المسؤولة عن كل ما يحدث لنا من مصائب، أو ينزل بنا من كوارث.

التحلل من المسؤولية متغلغلٌ فى «سيستم الحياة المصرية». قلما تجد شخصاً يقول لك- مثلاً- إنه يتحمل مسؤولية فشله. قلما تُصادف من يُخبرك بأنه أخطأ فى كذا وكيت، وأنه سوف يتحمل مسؤولية هذا الخطأ. حتى من يعتذر عن خطأ ما، فهو يقوم «بهندسة وإخراج» اعتذاره للحصول على تعاطف يخلصه من المأزق، تماماً كما فعل عبدالناصر وقت التنحى. لا استعداد أبداً للاعتراف الفعلى- أمام النفس أولاً- بالخطأ والمسؤولية عنه. وعليه، فلا فُرصة قائمة لمُراجعة حقيقية للذات. كيف تحدث هذه المراجعة إذا كان التفكير يتحرك فوراً- وبشكل تلقائى ولا واع- فى اتجاه البحث عن مخرج أو كبش فداء للنجاة من أية أزمة؟!

صعوبة تحمل المسؤولية تكمن فى أنه سلوك ينطوى على مواجهة مؤلمة مع الذات. مصر فى حاجةٍ اليوم إلى هذه المواجهة القاسية الضرورية أكثر من أى وقت مضى.

gamalx@yahoo.com