رسالة إلى الفنان فاروق حسنى: أحمد عبدالفتاح.. الفنانُ المَنسىّ

كتب: فاطمة ناعوت السبت 23-10-2010 18:46

تلك الريشةُ التى تسبح فوق سطح الورق أو التوال، لتمرّ برهافة على وجه أم مصرية تجلس جوار النافذة لتنسج بخيوط التريكو كنزة تدفئ صدر وليدها، أو تحيك لطفلتها فستان العيد. تلك الريشة التى تنغمس فى باليته الأزرق الزهرى، وأحمر الياقوت، لتنسج ثوبى فلاحتين مصريتين رشيقتين تسرعان الخطو نحو السوق، تحمل إحداهما، فوق طرحة سوداء تغطى شعرها، جوال قمح، وتحمل صاحبتها جوال شعير.


 تلك الريشة التى تنساب انسياب الماء من «الكوز» فى يد امرأة تجلس القرفصاء لتغسل شعر صغيرتها المنكفئة برأسها فوق «طشت» الغسيل.


تلك الريشة التى سجّلت تفاصيل حياة البيت المصرى، وأرّخت كفاح الفلاح وحبّه للحياة، وقبضت على الفرح فى عيون الأطفال، حزينةٌ.


تجرّب الحزنَ الآن، الريشةُ التى نهلت من بهجة الأكواريل والجواش والزيت والباستيل. لأن صاحبها طار عن الدنيا، تاركًا وراءه علبَ ألوان مُطرقة، وخمسمائة لوحة، فى حِدادها، تهددُ بالفناء.



فى أبريل الماضى، كتبتُ بعمودى بالمصرى اليوم مقالا عنوانه «قبل أن يطوَيه النسيان»، حول الفنان التشكيلى المصرى الراحل أحمد عبد الفتاح. ذاك الذى دفعه كبرياؤه ومحبته العزلةَ، إلى الزهد فى الأضواء، فمضى «العملاقُ الصامت»، كما سمّاه الفنان حامد عويس، عن عالمنا دون أن يقيم معارضَ، تقريبًا.


 أقام أبناؤه معرضًا فى متحف «محمود سعيد» حقق نجاحًا مدهشًا، أوصى، على إثره، د. أحمد نوّار، ولجنةٌ متخصصة، بالحفاظ على اللوحات من التلف؛ لأهميتها. لكن اللوحات الخمسمائة تحتضرُ يومًا بعد يوم. فلا أحد تحرّك لإنقاذ ذاك التراث الثمين. لكن ابنه الأستاذ ماجد عبد الفتاح، بالمعاش، لم يكفّ عن محاولة ردّ الاعتبار إلى أبيه الراحل، الذى بعدُ لم ينل حقّه فى حركة التشكيل المصرى، رغم أنه من الرعيل الأول الذى دشّن جمالياتٍ جديدةً للفنّ المصرىّ الحديث.


وصلته ثلاثُ دعوات من بينالى فلورنسا بعدما فحصت لجنته العلمية لوحات الأب. آخرها كانت للمشاركة فى بينالى ديسمبر 2011. راسل السيد ماجد مكتب الفنان فاروق حسنى، فاتصل به فورًا سكرتيره وأخبره أن الوزير مهتم بالأمر، وينتظر سيرة الوالد الذاتية واسطوانة اللوحات. وبدأ الحلم ينتعش فى قلب الابن بعد مهاتفة سكرتير الوزير، فأخيرًا «سيأخذ الفنان حقه!» لكن شيئًا لم يحدث!


وبعد شهور من تكرار المراسلة وعدم الرد، ملأه اليأس فصرخ قائلا: «لو كنت أصغر سنًّا لحملتُ اللوحات إلى كورنيش الإسكندرية فى وقفة احتجاجية!»

أحلامٌ بسيطة ومشروعة يحلمُها أبناء الفنان الراحل. يحلمون، وأحلمُ معهم، أن ينال فنان مصرىٌّ طار عن دنيانا بعضَ حق لم ينله فى حياته.


يحلمون، وأحلمُ معهم، أن يحتلّ اسمه موقعه الذى يليق به مثل معاصريه الذين حصلوا على مكانتهم فى وطنهم. يحلمون، وأحلم معهم، أن يهتم قطاع الفنون التشكيلية بإنقاذ تراث فنان مصرى. تلك اللوحات المكدّسة فى منزل قديم متصدع آيل للسقوط فى حى محرم بك بالإسكندرية، قبل أن تنال منها أنيابُ الزمن الشرسة.


 يحلمون، وأحلمُ معهم، أن يُدرج د. أحمد زكى بدر فى مناهج التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى مادة «الفن التشكيلى». يضم كتابها المدرسى لوحات لفنانين مصريين وعالميين، مع قراءة نقدية مبسطة لكل لوحة، حتى نُنشئ جيلا مصريًّا جديدًا غير جاهل بهذا الفن الرفيع، الذى يُهذِّبُ الروح وينظّف الدماغ من غيوم الظلام.



فى لحظة يأس من تحقيق ما سبق من أحلام بسيطة وطيبة، فكر الأبناء فى بيع لوحات أبيهم، ليس طلبًا للمال، بل ربما، حسب ظنى، لكى يتخففوا من وطأة مطاردة اللوحات. فللوحة عيونٌ معاتِبة، وألسنٌ تنطق باللوم، تقول: «مات مَن رسمنا، بريشته ودمِه وأعصابه، فغدونا يتامى!


وأنتم، أبناؤه، ماذا قدمتم له، ولنا؟ هل تتركوننا نزوى وتمحو ألوانَنا ممحاةُ الشيخوخة؟» فكروا فى التخلص من هذا الميراث الضخم المُعذِّب اللوّام، بأن يلقوه عن كواهلهم، فيستريحوا! لكن كلمة حامد عويس أعادتهم إلى صوابهم.


 إذ قال: «متبعوش أبوكم ببلاش!» أسرّ لى الأستاذ ماجد بأنه على استعداد لأن يُهدى لوحةً لكل متحف فنون تشكيلية بمصر، على الأقل سيضمن لها مكانًا آمنا يستودعها فيه، فيفيد منها الناس، مثلما تزيّنُ لوحته «أمومة»، إحدى قاعات متحف الفنّ الحديث.



أناشد الفنان التشكيلى فاروق حسنى، وأنا أعلم ماذا يعنى لدى الفنان هلاكُ لوحة تشكيلية، أن ينقذ إرثًا مصريًّا مهمًّا مكوّنًا من 500 لوحة توشك أن تهلك فى مخزنها المعتم بشقة مهجورة فى عمارة تهدد بالسقوط.


Fatma_naoot@hotmail.com