«فظائع لا توصف!»

الأنبا إرميا السبت 02-04-2016 21:39

نستكمل معًا تاريخ «مِصر» الذي تحدثنا فيه عن وُلاتها: «حَوثَرة بن سُهَيل»، و«المُغِيرة بن عبيد الله» الذي قضى في وِلايته لـ«مِصر» عشَرة أشهر وتُوُفِّى فيها، و«عبدالملك بن مروان بن موسى» الذي تولى في عهد الخليفة «مروان بن مُحمد» آخر خلفاء الدولة الأُموية. ثم عرضنا بإيجاز للصراع داخل نظام الدولة الأُموية السياسى الذي أدى إلى نهاية حكمها، وبَدء حكم جديد للدولة العباسية التي لُقبت ثورتها بأنها «ثورة الفرس ضد العرب».

وكما ذكرنا في مقالة سابقة، فإن الصراع داخل أي نظام سياسى هو الشرارة الأولى لسقوط ذلك النظام وقيام آخر، وهذا أحد الدُّروس التي يقدِّمها التاريخ، وهو ما قد حدث في الدولة الأُموية حيث أدت الصراعات إلى ضعفها، في حين أتاحت هي الفرصة لتقوية دعاة الدعوة العباسية. وعلى سبيل المثال، كانت إحدى نتائج الخلافات بين «مروان بن مُحمد» وإبراهيم بن يزيد«اشتعال الفتنة بين «المُضَرية» و«اليمانية» بالشام الذين مالوا إلى الدعوة العباسية. كذٰلك ثارت الفتن والثوْرات ضد «مروان» من كل جهة وصوب كما أشرنا سابقًا.

وفى ذٰلك الوقت، تولى «أبومُسْلِم الخُراسانى»«أمر الدعوة العباسية في أرض «خُراسان»، وهى بلاد شاسعة تقع شرقى إيران إلى الغرب من الهند، حيث الصحراء الفارسية إلى الجنوب والجنوب الشرقى منها. وقد أرسل إبراهيم الإمام ـ زعيمُ الدعوة العباسية قبل ظهورها وأخو الخليفتين «أبى العباس» والمنصور ويُكنى بـ«أبى إسحاق» ـ كتابًا مع «أبى مُسْلِم الخُراسانى»، يطلب فيه من شيعته طاعته. وما إن ظهرت دعوة «أبى مُسْلِم» في عام ٧٤٦م في خُراسان، حتى أقدمت قبائل العرب على محاربته، ولكنه نجح في دعوته عام ٧٤٧م، ثم دخل مدينة مِرْو بعد أن هرب منها الوالى الأُموى «نصر بن سَيّار». ومع حُلول عام ٧٤٨م، استطاع «أبومُسْلِم» السيطرة على خُراسان بأسرها، وهزم الجُيوش التي أرسلها الخليفة الأُموى «مُحمد بن مروان»، وأرسل «قُحطَبة» على رأس جيش للسيطرة على «العراق». أمّا في عام ٧٤٩م، فقد شهِد نهاية دولة وقيام أخرى؛ فقد امتدت الدعوة العباسية في المشرق مع مبايعة «أبى العباس» عبدالله بن مُحمد بالخلافة، وفى الشَّمال تولى «الحسن» الذي استولى على «الكوفة» حيث بُويع «أبوالعباس». وهكذا استولى العباسيُّون على المدن الواحدة تلو الأخرى، إلى أن التقى جيش الأُمويِّين بقيادة الخليفة «مروان» وجيش العباسيِّين وعليه «عبدالله» و«صالح بن على» عند نهر الزاب، حيث مُنى مروان بهزيمة فهرب بجُنوده إلى مِصر، وفى إثره الجيش العباسى. وكما ذكرنا فإن جنده في الصَّعيد ارتكبوا فظائع لا توصف، وكان مروان بن مُحمد قد اعتقل «البابا خائيل الأول» مرة أخرى.

البابا خائيل الأول البطريرك السادس والأربعون اختير في عهد الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وقد تعرض لمضايقات من بعض الوُلاة، في حين نال حظوة عند آخرين. وكان «أنبا مُويسِيس» أسقف أوسيم ملازمًا «للبابا خائيل» في جميع ما تعرض له، وبخاصة في أوقات الشدة والضيق.

وفى عهد الخليفة «مروان بن مُحمد»، طالب الملكانيُّون الخليفة بأن يسلمهم «كنيسة أبى مينا بمريوط»، مدعين أنها مِلك لهم وليست لأقباط مِصر. فطلب الخليفة حُضور البابا خائيل في أثناء وُجود بطريرك الملكانيِّين ليسمع منهما عن أمر تلك الكنيسة. فما كان من البابا خائيل، إلا أن أسرع إلى دار الوِلاية بـ«الفسطاط» وبصحبته «أنبا مُويسيس»، وأنبا ثيئودورُس أسقف بابليون، مع عدد من الكهنة والأراخنة، وتناقشوا في أمر الكنيسة أمام الخليفة مروان.

استمرت المناقشات والحوارات طويلًا ممتدة إلى أيام، ما جعل الخليفة يطلب من كلا الجانبين أن يتقدم كل منهما بأوراقه ومستنداته كتابةً للحكم في الأمر. وقام البابا خائيل بكتابة تقرير يُثبت فيه ملكية الكنيسة للأرثوذكس وقدمه إلى عيسى رئيس الديوان، ورفع أيضًا الملكانيُّون مذكرة بسيطة إليه. إلا أن رئيس الديوان أهمل الأمر أملًا في الحصول على بعض المال؛ وقد استماله الخَلقِيدُونيُّون عندما قدموا إليه الهدايا، وكاد أن يحكم لمصلحتهم، لكن الله لم يسمح له باتخاذ أي قرارات حتى عُزل وعُين مكانه أبوالحُسَين الذي كان ابنًا لأحد كبار القضاة، وعُرف بعَدله وحكمته، فطلب لقاء الطرفين لبَتّ الأمر. وتذكر «إيريس حبيب» المؤرخة أنه حين التقى رئيس الديوان «أبوالحُسَين» البابا خائيل، قال له: «أتُقسم بالله العلى أن هذه الكنيسة مِلك لك ولآبائك من قبلك؟». فأجابه الأب البطريرك على الفور: «إن دينى ينهانى عن القَسَم، ويأمرنى أن أقول الصدق مهما كلفنى قوله». وهنا التفت أبوالحُسَين إلى الخَلقيدونى وسأله: «أتُقسم بأن الكنيسة ملك لك؟». فأجاب قائلًا: «نعم. إنى على أتم الاستعداد لأن أقسم». وهنا هز «أبوالحُسَين» رأسه ساخرًا من كلماته. ثم وجَّه سؤالًا إلى «البابا خائيل» عن شهوده في إثبات صحة ملكية الكنيسة. فأجابه البابا أن تلك الكنيسة قد شُيِّدت بيد «البابا ثيئوفيلس»، وزيَّنها باثنَى عشَر عمودًا، ونقش اسمه على كل عمود منها. ثم أتى من بعده «البابا تيموثاؤس» ليُتم البناء، ونقش اسمه على أحد جدرانه. وختم البابا البطريرك كلماته قائلًا: «فشهودى لديك هم أسلافى الأماجد». وما إن سمع «أبوالحُسَين» كلمات البابا البطريرك حتى أرسل برسُْله للتحقق من كلمات البابا، وعند عودتهم أقروا بصدق ما قاله البابا البطريرك وسُلمت الكنيسة «للبابا خائيل».

إلا أن فترات السلام والهدوء كانت قصيرة، فنتيجة تنازع الأمراء الأُمويِّين معًا للفوز بالخلافة، إلى جانب الثورات التي واجهت «مروان»، فقد تشدد «مروان» جدًا في حكمه مستخدمًا وسائل الضغط والإرهاب كى يتمكن من السيطرة في قبضته على الحكم، فأرسل إلى والى «مِصر» بمضاعفة الضرائب على المِصريِّين لإضعافهم ومنع حدوث أىّ ثوْرات من قِبلهم. ومع تلك الأوامر، قام الوالى بجمع ضرائب باهظة من المِصريِّين وبخاصة الأقباط، الأمر الذي جعل الأساقفة يفِرون إلى الأديرة. فقام الأب البطريرك بعقد مجمع مع الأساقفة حكموا فيه بضرورة استمرار الأساقفة في كراسيّهم، مع حرمان كل من يخالف ذلك. وقد ألقى الوالى «عبدالملك بن مروان» القبض على «البابا خائيل»، وطالبه بدفع مبلغ كبير من المال، إلا أن البابا لم يكُن لديه المال، فأمر الوالى بقتل الأب البطريرك! ويذكر «القَس مَنَسَّى يوحنا»: «فأمر أن يُقتل البطريرك، وتوضع رجلاه في خشبة عظيمة وتطوَّق رقبته بطوق حديد ثقيل»!.

وقد رافقه «أنبا مويسيس» أسقف أوسيم و«أنبا تادرس» أسقف مِصر وآخرون، إذ سُجنوا جميعًا في غرفة مظلمة محفورة في الصخر لا تصلها أشعة الشمس. وكان البابا يصلى لمن يأتيه من المرضى في السجن فينال الشفاء. وأخذ البابا ينصح الخطاة أن يتوبوا ويتركوا آثامهم، فتاب كثيرون على يديه. وبعد زمن، أحضر الوالى البابا، فطلب منه أن يسمح له بالخروج إلى الصَّعيد لجمع المال اللازم لدفعه، فأذن له الوالى. وفى تلك الرحلة جمع البابا ما يمكنه جمعه، إذ كان الشعب يئن من وطأة الضرائب الفادحة. وعند عودته، دفع له ما جمعه من مال فلم يرضَ بالمقدار الذي جمعه، فألقاه في السجن مرة أخرى! حتى جاء ملك النوبة بجُيوشه غاضبًا، ما جعل الوالى يطلق البابا البطريرك، طالبًا وساطته أمام ملك النوبة. وأعقب ذلك معالجة الأب البطريرك لابنة الوالى ما عمق بينه وبين الوالى روح الود والاحترام و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى