أتاحت لي الظروف قضاء يوم كامل في معسكرات تدريب قوات الصاعقة، بدأ بتناول وجبة الإفطار مع عدد من الضباط والقادة، وانتهى وأنا أغادر البوابة الرئيسية للمعسكر ومازالت صيحات الجنود من خلفي تخالطها زخات الرصاص، والأسئلة- بدورها- تعترك في ذهني بأكثر مما تتبلور الإجابات.
والأسئلة في صداها ورنينها في الوجدان أجلى من غضب قنابل التدريب التي كانت تهز الأرجاء يومئذ.
(2)
غير أنه على هامش الأسئلة كانت إجابة كبرى تتبلور وهي المكسب الأهم من اليوم.
فاللفظة الإنجليزية «legacy» التي تشير إلى معنى «الإرث» أو ذلك الشيء المنتقل من الأسلاف للأحفاد ومن أجيال سابقة لأجيال لاحقة، كانت ماثلة أمامي طوال الوقت.
على مستوى لغة التواصل بين القادة والأفراد وبين الجنود وبعضهم البعض.
ذلك الشعور أن هذه الطريقة من التواصل قديمة، يتسلمها جيل يسلمها لجيل، وليست مستحدثةً منقولةً أو مطورة، إنما هي شيء بمذاق الماضي وبنكهة الزمن.. من جيوش تحتمس الثالث لكتائب قطز وحتى آخر نخبة «صاعقة» قيد التدريب.
ففي الحيل التي يتدرب عليها الجنود، من تخف وتمويه وتسلق وقفز من مسافات مرتفعة ومن اندساس وسط النيران واختباء في باطن الأرض، وتلون بألوان الطبيعة، واستخدام أنواع مختلفة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة- خيطٌ موصولٌ بما درج عليه تحتمس الثالث- على سبيل المثال- وهو يوجه جنوده بتفكيك معداتهم الحربية وسلك طرق مراوغة لمباغتة الأعداء قبل معركة «مجدو».
الفكرة هنا في هذا التقليد الكامن، لا تقليد التكنيك ولا معنى المراوغة، بل في فكرة المتوارث الكامن في «شخصية» هذا الجيش، والذي تنقل إليه جيلا فجيلا، بدوران الزمان واختلاف العصور وتداول الحكم بين الفراعنة والملوك والرؤساء.
ففي واحدة من تدريبات الإعاشة وسط الظروف الصعبة، وقف قائد قوات الصاعقة اللواء أركان حرب أيمن شحاتة يشرح للجنود فائدة هذا التدريب الذي يزيد من قدرة الجندي على تحمل الحصار لشهور طويلة، بينما يشير الرجل إلى معركة جزيرة شدوان وما جرى فيها وكيف تصرف الجندي المصري المحاصر آنذاك.
وعلى عفوية الاستشهاد، بدا أن المتوارث والمتراكم داخل كيان القوات المسلحة المصرية، هو نوع من المعرفة المتناقلة بأدوات الوجدان وبمسالك التسليم والتسلم بين الأجيال، بأكثر منها خبرات مدونةٌ ومسجلةٌ على نحو ما تُوثق العلوم والمعارف في عمومها.
ورغم «ليونة» المثال إلا أنني أود أن أورده كما هو إذ هو في قدرته على الإيصال والإيضاح، أدل ما يكون:
ففي بداية الألفية الثالثة كان فريق ريال مدريد الإسباني متخمًا بأفضل نجوم العالم (فيجو وزيدان وكارلوس وبيكهام)، غير أن كل هؤلاء العمالقة، ربما لم يتجانسوا سويًا ليصبح ريال مدريد استثناءً أسطوريًا في تاريخ اللعبة في ذلك الوقت.
فقد بدا كل لاعب نجما في حد ذاته، متبعا طريقته الخاصة في اللعب وإن امتثل لتعليمات المدرب نظريًا، ولم تذب الفروقات ليصبحوا فريقًا، بمقدار ما بدوا نجومًا منثورة سويًا، بلا رابط معنوي لا يجوز غض الطرف عنه.
ساعتها قيل: لا توجد «روح الفانلة» بينهم! أي ذلك التجانس الضروري، وذلك «الإرث» الذي تصنعه الأندية في نفوس لاعبيها، بحيث لو جيء بأي 11 لاعبا ليرتدوا فانلة النادي، سيؤدون بذات السمت والطريقة وبنفس «روح» النادي التي تكرست عبر عقود من ممارسة اللعبة حتى أضحى له نكهته الخاصة.
وهذا هو ما خطر ببالي تماما في قلب معسكرات قوات الصاعقة المصرية، عن تلك الطريقة والروح التي تنتقل بها المعرفة العسكرية والفلسفة القتالية، بحيث تذهب أجيال وتجيء أجيال، تمضي لربها قيادات وتحل محلها أخرى، ويبقى ذلك الشيء الكامن في هذه الأرض راسخًا.
بدا ذلك في مزاح الجنود سويًا بفروة الأرنب الذي تناولوه مع ثعبان صحراوي في تدريبات انتقاء الأكل من وسط الرمال الصفراء، وهم يدسون اللحم النيئ في أفواه بعضهم البعض، وهم يضعون الفراء الدامية «الزفرة» فوق رؤوس بعضهم البعض.
لترتسم الصداقة، كظاهرة إنسانية يشتد عنفوانها بصعوبة ودقة التجربة، في مظاهر مزاح الجنود، وكأن التجربة ليست طارئة مربكة بمقدار ما هي متكررةٌ حتى بالهزار الذي ينشأ على ضفافها.
كان ذلك يتأكد لدي بينما يتهامس معي بعض الضباط من الرتب المختلفة بتعليقات مضحكة، بدت وكأنها من «الإفيهات» الشائعة بينهم منذ كانوا صغارًا في السن. فحتى النكتة تعكس في حياة الشعوب «مضمونًا» ما وقناعات بعينها توارثوها أبا عن جد.
(3)
بمعزل عن هذا الجندي المغزول غزلا رفيعًا، كانت الأسئلة تجتاح الكيان بلا رحمة.
فكيف يستهتر من هم خارج هذه الأسوار بأعمار هؤلاء الجنود المنفوقة بين النيران والتدريبات الشاقة والمناورات القاسية والتدريبات المميتة والاشتباكات الدامية والمعارك الجارية في سيناء التي قدمنا فيها عشرات الشهداء؟
كيف يحارب الجندي ومن ورائه مجتمعٌ تضج أركانه بالظلم، ومن خلفه نظامٌ سياسي غير قادر على صناعة توافق داخلي ورسم رؤية مسبوكة تلملم الأشتات على طاولة الوطن؟!
هذا الجندي هو الذي تموت أمه لأنه لا يوجد نظام رعاية صحي كفء، يتدارك الناس في انتكاسات أجسامهم، هذا الجندي هو الذي قد يلقى أخوه إهانة في قسم شرطة أو في مقر من مقار الأمن الوطني لسبب غير قانوني وغير إنساني؟ هذا الجندي هو الذي قد يلقى حتفه على الطريق الدائري لأنه طريق لا يجوز استخدامه في نقل البشر وسط عشرات الحوادث التي يشهدها بوتيرة تكاد تكون منتظمة!
هذا الجندي بحاجة إلى دعم حقيقي، بحاجة إلى وطن عادل وآدمي، يفديه بدمه وهو مطمئن أنه لو غاب فللبيت رب وللطفل أب.
نعلم أن حب الوطن ليس مشروطًا بكفاءة ظروفه المعيشية، ونعلم أن العيون التي باتت تحرس حدودنا لا تتأفف من الفوضى التي نموج فيها، بمقدار ما هي مشغولةٌ بمهمتها التي نذروا أنفسهم لها، ويزكى أوارها الإيمان بالله والوطن.
ولربما يلقي ضرب المثال بـ«الجندي» صدى في نفس الرجل الذي تثير شجونه وآماله –على السواء- سيرة الجنود، ويستوعب مطالب الحياة لو كانوا هم محل التشبيه.
ليدرك أن ملفات العدالة وحقوق الإنسان والإصلاح الداخلي الحقيقي هي أكبر دعم يمكن أن يوجهه لهذا الجندي الباسل الواقف في الميدان، وبقلبه إيمان بالوطن لايزحزحه شيء أبدًا.
هذا الجندي يا سيدي، حين ينهي خدمته يومًا ما، وحين ينجلي خبث الأرض عن سيناء، سيسألك أسئلة مؤلمة عن الوطن الذي كان يحارب لأجله وسط الصحاري وكنت تحكمه أنت وسط المدن، وسيكون هولها في نفسك مضاعفًا حين يضع بين يديك زيه العسكري وبعضه معفر بتراب الأرض وبعضه مخضب بدم المعركة.
أما لو وضع أمامك زي زميله الشهيد، والدم فيه لم يزل ساخنًا فوارا، فكيف تكون إجابتك؟