بكارى يحيى الأسطورة الأمازيغية

صلاح فضل الجمعة 01-04-2016 21:22

لاتزال الرواية تلعب دوراً خطيراً فى تجذير الوجود الأنثروبولوجى للكيانات الإثنية التى تتعايش فى الوطن العربى، وتنتقل بها من مرحلة الاحتدام العرقى وما يفضى إليه من تطرف طائفى عندما يتم كبته وتجريمه، إلى مرحلة التوافق الصحى، إذ يحتضنها الوعاء العربى الوسيع بلغته وثقافته المتآلفة، فالنوبيون والطوارق والأكراد والأمازيغ عندما ينخرطون فى جسد ثقافى واحد بالكتابة العربية يخلعون عن عرقياتهم إثم العزلة، ليذيبوا توتراتهم ويبرزوا خصوصيتهم وهم يكتسبون شرعية الاندماج المتعدد الخلاق. ورواية «نوميديا» التى نشرتها دار الآداب للكاتب المغربى الجميل طارق بكارى ولفتت إليها الأنظار نموذج شيق لعبور الهوة وانصهار الثقافة بين العرب والبربر الأمازيغ فى الشمال الأفريقى، وإن كانت لا تصمت عن الجروح التى مازالت دامية من المستعمر الأوروبى، فقلعة الرومى التى تطل على قرية «إغرم» ملاذ بطل الرواية «مراد» تجسد هذا الماضى الكئيب، حيث اعتصم ببرجها المنيع أحد طغاة الاستعمار وجعل يمطر أهل القرية وابل رصاصه حتى افتداه شيخها بابنه وبنى الضريح وامتدت الأسطورة ليعيش فى وجدان الناس وتقدس التضحية، وتستهل الرواية بضراعة حارة يرفعها المهاجر العائد بعد ربع قرن لقريته قائلاً: «هاأنذا أعود إليك يا إغرم وأدفع أمامى كرسياً متحركاً يقل قلبى المعطوب، لايزال أوداد الطفل داخلى فلا تأبهى بجسدى لأنه مثل الزهر والشجر مؤقت وقابل للانجراف، أعود إليك سيدتى لا لأبحث فى حفريات طفولتى عن شىء ذى معنى، ولا لأستنطق خيانات المكان، كل ما فى الأمر أنى عدت إليك بعد نصيحة الطبيب النفسى، فقد جرتنى بعيداً عنك يد غريبة.. فلم تكتف المدينة بتغيير اسمى الجميل الذى أطلقه علىَّ أهلوك أوداد» أى الوعل باللغة الأمازيغية، بل خربت بمشرطها أوصالى فجعلت اسمى «مراد» لعل شحنة الشجن والشعرية التى تتدفق من هذه السطور تكشف عن هذا التوق العارم للعودة إلى الجذور باعتبارها وسيلة لشفاء الروح المكلوم، وحينئذ تصبح الموسيقى- وهى جوهر الفن- سيفا يشق لحم الغريب حتى ليوشك أن تتدفق الدماء من فمه ويخر صريعاً وهو يسمع المغنية تشدو بصوت أمازيغى فيه الكثير من الجراح: «سأمضى.. سأمضى إلى أن تنادينى من مكان ما قدما حبيبى»، ومع أنه قد عاد للقرية سيداً، لا مريضاً هارباً، ابتاع فندقاً على مشارفها وتناسى ذكرياته الموجعة فيها ما وسعه وهو ليقط فى دروبها، تعذبه صفية زوجة من التقطه ليتخذه ذكراً يكمل به نقص بناته فتجلد ظهره بالسياط، غير أنه يبوح: «فى الوقت الذى كنت أصعد فيه سلالم الفندق، كانت الأغنية لاتزال تشعل داخلى نيرانها، كنت أحسها فأسا يحفر فى ظهرى، ويخلف ندوباً أعمق مما خطتها منذ زمن بعيد قضبان صفية المحمية والتى لاتزال جاثمة على ظهرى، آه يا ماضى.. أما تنام». هذه الشهقات الموجعة تجسد حالة مركبة، فلا هى بالتحنان الذى يمض الغريب ويؤنسه، ولا هى بالرغبة الصريحة فى استرجاع اللغة والهوية، فهو ثائر عليها ينكر أنه يتحدث بها عندما يجرى بها لسانه غصباً فى حالات الغيبوبة والرعاف، حتى ليصبح تفسير شيخ القرية أنه قد سكنته جنية الوادى وعلقت بجسده، وهو لا يلتمس الشفاء بهذه العودة كما نص الطبيب، فهو يمضى واعياً إلى مصرعه، ويصنع مأساته وحتفه بظفره.

كلمات مشحونة:

هناك كلمات مشحونة بكهرباء النصوص السابقة، فعندما تدخل فى تركيب جديد يحدث بها «ماس» دلالى، تنبعث منه شرارة الدهشة ونحن ندرك احتكاك النصين، ويطلق على هذه الظاهرة «التناص»، أى تداخل النصوص، وكثيراً ما تحدث فى الشعر، لكن الرواية بالوعة واسعة نادراً ملاحظة ذلك فيها، باستثناءات يسيرة منها هذه الرواية، وتحتشد فيها ذاكرة الراوى لا الكاتب بمرويات لا حصر لها، مما يشير إلى تعمقه فى استيعاب الثقافة العربية والإنسانية وهو يستمطر سحائب وعيه الأمازيغى الغارب، فيعلق مثلاً على تغيير اسمه بأن اسمه الجديد أصبح يلازمه- كما يقول درويش- مثل «الكلب السلوقى الوفى» فتتذكر كلمات محمود الفاتنة «أما أنا فأقول لاسمى/ دعك منى وابتعد عنى فإنى ضقت منذ نطقت/ أنت أنا، ولم أخترك/ يا كلبى السلوقى الوفى» وكان هذا المشهد ذاته قد ذكرنى فى بحث سابق بدهشة شاعر كبير آخر أمام اسمه، هو فيديريكو جارثياً لوركا الذى كان يقول: «ما أغرب أن اسم فيديريكو» يميط اللثام عن هذه الصحبة المفروضة والغريبة بين الإنسان واسمه، ليجعلها درويش مثل صحبة الكلب السلوقى الوفى، لكن التغيير الذى يعانيه بطل «نوميديا» يحرمه من دلالة الاسم الأصلى على الوعل الجبلى الذى يظله مراد. وتمتد ذاكرة الراوى لتغرف نصوصها الأثيرة من كل العصور والثقافات، فهو يتحدث عن رفيقته الفرنسية الشقراء جوليا، التى غرقت معه فى بحر العشق فى رحلة الاستعادة وحملته على البوح بأسرار طفولته، فاخترع لها حيلة التمييز بين شخصيتين، إحداهما أوداد، وزعم أنه كان صديقاً لصيقاً بطفولته، إلى جانب شخصيته هو، وتصور أنها تمثلت عذابات أوداد، حتى لتكاد تجزم بأنه «أتعس منه لم تلد النساء» فتبزغ فى ذاكرتنا على الفور كلمات حسان بن ثابت الشهيرة فى مدح الرسول عليه السلام:

«وأحسن منك لم تر قط عينى/ وأجمل منك لم تلد النساء».

وتنتصب المفارقة بين التعاسة والجمال لتجعل وقعها أشد فى التضاد الفادح بين الطرفين، ولأن تجربة مراد فى العشق كانت ذات طابع جنسى شهوى باذخ مع كل محبوباته فهو يتذكر أكثرهن براءة وتضحية وعذوبة، وهى خولة التى عشقها وهجرها فواجهت مصيرها بشجاعة عندما ارتفع بطنها فى غيابه وانتحرت تاركة له مذكراتها فى دفتر أحمر ليستعيدها فى لحظات صحوه ويقبض عليها بكلتا يديه عند غيبوبته، يقول مثلا:

«تذكرت خولة والسنين الخواليا/ أيام لا نخشى عن «الجنس» ناهياً فيدور فى سمعنا بيت المجنون الشهير:

«تذكرت ليلى والسنين الخواليا/ وأيام لا نخشى على اللهو ناهيا».

ما أبعد الشقة بين لهو قيس الطفولى البرىء وجنس مراد الوعل الشهوانى الذى يجمعه فى سرير واحد بشاعرة رافقت صباه اليسارى المناضل فى ضهر المهراز بجامعة فاس وأخرى فرنسية شقراء تآمرت مع طبيبه واشترت ملفه النفسى وعرفت كيف تتقرب إليه لتكتب رواية جديدة عن المغاربة المهاجرين وتمزقهم فى حرب الهويات وفحولتهم، جاءت لتجرب بدمه وجسده وروحه، على أن هذا الطابع الأدبى الذى دمغ ذاكرة مراد ليس غريباً عن طبيعة الحياة الأمازيغية، فهو يرى أنه على الرغم من أن التعب قد دبغ جلود الفلاحين المرابطين فى حقولهم منذ بزوغ الشمس حتى غروبها كما يحدث فى القرى العربية كلها فإن لهم عوالم أدبية لا يعرفها إلا من كبر وسطهم، لهم مزاج تصنعه وتمثله حكاية، فهم يتدفأون بها فى ليالى الشتاء، ويتفيأون ظلها ونسيمها البارد فى الصيف، حكايات ملاحم تشبه الإلياذة والأوديسا وألف ليلة وليلة وتمتح من القضايا الإنسانية بمجداف الخيال، لهم مواويل تثير الشجن عن العشق والغدر، بكلمات «الناماوايت» التى تشع وتعرش فى أعماقهم.

أسطورة نوميديا:

لكن مدار الرواية وبؤرتها المشعة بالدلالة هى التى تتأرجح بين الرؤية الغيبية والمشاهد العينية، وهى «نوميديا» التى تمتطى صهوة جوادها الأسود وتطلع على الراوى من فج الجبل المحيط بالقرية، تجلس على ظهر الحصان بفخر وخيلاء وبرود، «يبدو جيدها رائعاً كأنه منحوت من عاج، لها حضور قوى وجمال فتاك، يقول لها فى ضراعة «تصورى، لقد تخيلتك ملكة أمازيغية بزغت من جبال هذه القرية وسميتك «نوميديا» لكنها لا ترد عليه فيصبح بوسعه أن ينطق صمتها بما يشاء، ثم لا تلبث أن تخط فى الرمل كلمة «خرساء» وعلى الرغم من تكرار ظهورها له فإنها تظل فى تلك المنطقة المبهمة المتراوحة بين الخيال والواقع، حيث يعيش مراد تجارب نفسية عارمة، ولحظات وجودية مريعة، يخترقها خيطان متقاطعان، قبل أن يندمجا فى نسيج واحد، أحدهما هو عذابه الداخلى ومتعته السادية مع الشقراء جوليا، إذ يكتشف لعبتها فى التمثيل عليه والنكاية به، يستمع لتسجيل تعترف فيه بأنها اقترفت فى حقه جناية أدبية واقعية ودموية، حيث أعطاها الطبيب الذى باع لها ملفه حقنا تثير أحزانه وشجونه وحبوباً تضعها فى أقداح قهوته تجعله يشعر بالصداع وتلهب مرضه النفسى حتى ينهار ويقول ما تريد سماعه من أسراره، ثم يحذرها الطبيب بأن جشعها الروائى قد يخرس المريض إلى الأبد، فحياته أقصر من قصيرة، وهى مستحيلة دون أدوية، وغداً أو بعد غد سيجن أو ينتحر» وعلى الرغم من أن مراد- وهذه مأساته الكبرى- قد اطلع على هذا السر الرهيب فقد ظل يمثل لها دور العاشق النهم، ويتركها تغرس فى أوردته الحقن القاتلة وتضع فى قهوته الحبوب بسادية انتحارية عجيبة حتى بعد أن اطلع على اعترافها بأنها هى التى دبرت ما كان يتوهمه من تهديدات المتطرفين الدينيين له بالقتل ورسائلهم المتوالية إليه فى حجرته وعلى الطرق التى تهدد بأن موعده قريب مع الموت مثل صديقه اليسارى مصطفى الذى تناثرت أعضاؤه فى تفجيرات الدار البيضاء، من الغريب أنه يتمادى فى الاستجابة لتدبيرات جوليا للتعجيل بموته كأنها قدر لا مفر من لقائه، يشبه نفسه بديك الجن لكنه هو الضحية والعاشقة هى الجلاد، هذان الخيطان من الغرام الغادر والعشق الدامى فى سبيل الولع بالرواية والكتابة وطيور الظلام الإرهابية المتربصة بالمثقفين، من ناحية أخرى يمثلان مع أسطورة الشخصية الأمازيغية أضلاع هذا العمل الروائى المشبع الممتع، من إحكامه ولغته، فى مشاهده وأخيلته، فى إيقاع أحداثه وزخم ذكرياته، فى تمثيله الجمالى الرائع للوجود الأمازيغى المكين فى القرية والأغنية، والأسطورة والذاكرة، ما يضفى ظلال من الشعرية الرائقة على هذا النص الإبداعى البديع.