فى الآية الكريمة من سورة يونس، جاء تعبير المفسدين، وليس الفاسدين، فى قول الله تعالى (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ذلك لأن الفاسد قد يكون مسؤولاً عن إفساده وفقط، هو وحده الذى سوف يتضرر من فساده، أما المفسد، فهو الذى يشيع الفساد فى الأرض أو فى المجتمع، هو الأخطر على الإطلاق، فى الحالتين يجب التدخل، فى الأولى لإثناء الفاسد عن فساده، بما لا يضر نفسه، وفى الثانية لإثناء المفسد عن إفساده، درءاً للضرر الذى سوف يقع على المجتمع.
من هنا، جاءت الآية الكريمة لتوضح أن عمل المفسدين لن يجد دعماً إلهياً، بل لن يواكبه إصلاح، بالتالى لن يتقدم المجتمع، أى مجتمع، من هنا أيضاً كان لزاماً مقاومة الفساد والإفساد معاً، مقاومة هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا، هؤلاء الذين يسعون فى الأرض فساداً، هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله، هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، هؤلاء الذين يطففون الميزان، هؤلاء الذين يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، هؤلاء الذين يبغون فى الأرض بغير الحق، هؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة، هؤلاء الذين يسرقون، يحتكرون، يخربون، يتآمرون، يظلمون، إلى غير ذلك كثير من المصطلحات المستحدثة.
وفى العقوبات الإلهية الكثير مما جاء النص به (فاقطعوا أيديهما) فى عقوبة السارق والسارقة، (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) فى جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً، وهكذا انطلقت عملية مقاومة الفساد والإفساد من أمر إلهى، وليس مجرد دساتير وضعية، أو رؤى برلمانية، أو حتى توجهات شعبية، وذلك حتى يمكن أن يستقيم ميزان الحياة، وإلا فإن قوانين الغابة هى البديل الطبيعى، فيسود منطق القوة، ولا مجال للضعفاء، ولا الفقراء والمساكين.
من هنا، فإن التستر على الفاسدين والمفسدين هو فى حد ذاته جريمة لا تقل أبداً عن الفعل ذاته، حتى إن عدم الإبلاغ عن هذه وتلك يرقى إلى نفس المنزلة (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)، وذلك لما فيه صلاح وفلاح المجتمع ككل، ولنا أن نتخيل مجتمعاً به من الفاسدين والمفسدين ما به، ثم من المتسترين ما به، ثم من الكاتمين للشهادة على ما جرى، إلى آخر ذلك من قائمة طويلة تندرج جميعها تحت عنوان الفساد، النتيجة النهائية سوف تكون حالة من الضياع المجتمعى، الفقر، الضنك، المتسولين، المشردين، العاطلين، الجياع، المرضى، ارتفاع الأسعار، تدهور الاقتصاد، غياب القيم، تردى الأخلاق، إلى غير ذلك أيضاً من سلسلة طويلة من الانهيار العام.
بالتالى كان من الطبيعى أن تنشئ المجتمعات، أى مجتمعات، أجهزة متخصصة لمراقبة ذلك الفساد، الذى يندرج، فى معظم الأحوال، تحت بند الجُنح، أو الأحكام المخففة بالحبس، مادام المتهم فاسداً فى حق نفسه، أو فى محيط الدائرة الضيقة حوله، أما الإفساد، أو المفسدون، الذين يشيعون الفساد فى الأرض، ينشرون الخراب والدمار، فقد اندرجوا قانوناً، فى معظم الأحوال، تحت بنود قانونية جنائية بعقوبات أكثر غلظة، بالسجن المشدد والمؤبد، وقد تصل إلى حد الإعدام.
نتائج الفساد والإفساد معاً فى مجتمعاتنا واضحة، الأوضاع تزداد سوءاً يوماً بعد يوم على كل المستويات، هناك اعتراف رسمى بالحالة، الخلاف أصبح حول الحجم، حول الرقم، هناك إجماع حول أن هذه هى النكبة الحقيقية التى يواجهها مجتمعنا، إلى جانب الفشل الإدارى بالطبع، إلا إنه لا توجد إرادة المواجهة حتى الآن، لا توجد شجاعة مواجهة الفاسدين، ولا المفسدين، كما لا يوجد الحافز لدى الكاتمين للشهادة، أو المبلغين، قوانين حماية الشهود فى الدول المتقدمة.
الأمر أيها السادة فى حاجة إلى إعادة نظر من كل الوجوه، تحديد أسباب ما نحن فيه من غم وهم، تحديد أسباب ذلك الفشل المتفاقم فى المجالات المختلفة، وضع أيدينا على أوجه الفساد والإفساد فى وجود إرادة حقيقية للمواجهة والإصلاح، وليس التستر والتدليس، مع الأخذ فى الاعتبار أن الحرب على الفساد هى الداعم الحقيقى لأى نظام سياسى، وليس العكس، أن القضاء على الفساد هو الإصلاح الحقيقى لأى منظومة مترهلة.
أعتقد أن الأمر فى حالتنا الراهنة يستدعى اعتبار هذه القضية «شعار المرحلة» بعد أن أصبح هناك توجس واضح لدى الغالبية العظمى من أن الأمر لا يسير فى هذا الاتجاه أبداً، بل يسير فى اتجاه آخر تماماً، لذا فإن الله لا يصلح عمل المفسدين.