ليس شيطاناً ولا ملاكاً!

طارق الشناوي الأربعاء 30-03-2016 10:02

لعب الشاعر والصحفى الكبير كامل الشناوى دورا محوريا فى حياة عبدالحليم حافظ، ولم يكن بالطبع هو فقط الذى يمنح بفكره الغطاء الشرعى لحليم، حيث كان يحيط به عدد من كبار صُناع الكلمة فى مصر (مصطفى أمين، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعى) وغيرهم.

كان حليم حريصا على أن يُنصت لهؤلاء الكبار، فمثلا بمجرد أن أطلق حليم أغنية (على قد الشوق) كتب كامل الشناوى أنها مثل الطبق الطائر الذى حلق به إلى آفاق بعيدة، وبالفعل صار حليم بعدها نجما لم يطاوله أحد فى سمائه.

ولكن علينا أن نتعامل بكثير من الحذر مع الجيل الذى جاء بعد هؤلاء الكبار فى علاقتهم مع عبدالحليم، حيث تغيرت قواعد اللعبة، حليم أخذ من أستاذه عبدالوهاب هذا الدرس، وهو أن يحيط نفسه بعدد من الصحفيين الفنيين اللامعين والمذيعين المشاهير، وكانوا من جيل حليم، يكبرونه أو يكبرهم بسنوات قلائل، علينا أن نُطل على المشهد بعيون ذلك الزمن منذ منتصف الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات، قبل عصر الفضائيات حيث كان من الممكن وقتها قبل عصر الانتشار الفضائى وتعدد المطبوعات الورقية والإلكترونية أن تسيطر على الحياة الصحفية والإعلامية، عبدالحليم كان حريصا أن يملك الكثير بين يديه من أوراق اللعبة لتسويق فنه ونفسه.

كان يمنح المقربين له من الصحفيين والمذيعين هدايا، وأغلبهم كان يقبلها مقابل أن يتم الاحتفاء بأعماله الفنية وأخباره، بعضهم كان يطالب بالمزيد من نفحات عبدالحليم، وعدد قليل كان يرفض، حكى لى كاتب كبير تلك الواقعة عن صحفى فنى كانت له سطوة وقلم ومساحة وشنة ورنة فى الستينيات، هذا الصحفى لم يقتنع بالهدايا التى اعتبرها مجرد لعب عيال وأشبه بفواتح الشهية على المائدة، أراد أن يتذوق طعم الطبق الرئيسى، حيث دأب حليم أن يرسل لهؤلاء الصحفيين والمذيعين الشباب ما بين ساعة يد أو عطر مستورد أو كرافت ماركة أصلية وغيرها ولكنه طلب مباشرة من حليم سيارة، كان بالطبع يعلم أن علاقة عبدالحليم بعدد من الأمراء والأثرياء العرب تتيح له أن يفتح له مغارة على بابا، ويغدق عليه، صحيح أننا لسنا فى عصر افتح يا سمسم، حيث الزمرد والياقوت والمرجان، ولكن لا بأس من سيارة آخر موديل، فهو يكتب عنه وينشر صوره وفى نفس الوقت يغلق أبواب جريدته ويطفئ أنوارها أمام منافسيه، بل ممكن أن يُشهر بهم إذا استلزم الأمر، ولهذا وجد أن من حقه تلك السيارة، وأضاف حتى يبدو أنه قانع بالقليل، أريدها صغيرة وبابا واحدا، فقال له حليم «من عينىّ يا حبيبى جيت فى جمل» ولم يدرك بالطبع سخرية عبدالحليم المستترة لأن الجمل أرخص حقيقة من السيارة، وكنا وقتها نعيش زمن انتشار أجهزة الترانزستور الصغيرة الحجم، كانوا يصنعونه بمختلف الأشكال والأحجام، واشترى حليم راديو وتليفزيونا بنفس مواصفات السيارة الصغيرة، وأرسلهما للصحفى لتتحول الهدية إلى مقلب، كان حليم حريصا أن يصل المقلب إلى دائرة أوسع لتصبح فضيحة صاحبنا بجلاجل، وهناك فصل ثان لتلك القصة عندما قرر هذا الصحفى مقاطعة أخبار حليم، فقرر حليم أن يصنع له مقلباً آخر وهو أن يزج إليه بخبر كاذب عن طريق صديق كان يثق به كثيرا هذا الصحفى باعتباره لا يمكن أن يشى له بخبر كاذب وهو الفصل الثالث، ثم نشرت الجريدة خبر رحيل ملحن وممثل كبير، وكان الرجل بصحة جيدة، حليم لا يكتفى بهذا القدر بل هناك فصل رابع وهو أن يتم النشر يوم السبت وهو موعد برنامج كانت الأسرة المصرية كلها تنتظره (النادى الدولى) تقديم أشهر مقدم برامج فى ذلك الزمن سمير صبرى، ليفاجئ الجميع بأن الفنان يمسك الجريدة ونقرأ نحن خبر رحيله ثم تنزل الجريدة من على وجهه لنرى الفنان مبتسما ويدرك الصحفى الكبير أن عبدالحليم له أنياب وأظافر والصراع معه يا قاتل يا مقتول!!

وهناك عشرات من المقالب التى حاكها حليم ضد عدد من الصحفيين عندما كانوا ينشرون عنه أخبارا لا يريد لها الانتشار أو يمنحون مساحات مبالغا فيها لعدد من منافسيه. ولكن هناك أيضا مقلب على الجانب الآخر تلقاه عبدالحليم عام 1974 من الصحفى نبيل عصمت، كنا فى أول إبريل، وكتب نبيل عصمت الشهير بـ(أبونظارة) تحذيرا فى أعلى الصفحة: (اليوم أول إبريل.. فلا تصدق كل ما تقرأ).

لم يلحظ كثر من القراء هذا التنويه، ولكنهم جميعا قرأوا أن عبدالحليم سوف يذهب مساء اليوم لمعهد الموسيقى الكائن فى وسط المدينة ليثبت أن هانى شاكر يضع صفارة فى فمه لكى يصبح صوته مشابها لحليم، وعلى الجانب الآخر أكد أن هانى وافق على التحدى، كان هانى قد قدم عددا من الأغانى الناجحة التى رددها الشارع أشهرها (كده برضه يا قمر) قالوا وقتها هانى يشكل خطرا على عرش حليم، وهكذا تدافع الآلاف لمعهد الموسيقى وبالطبع لم يحضر لا حليم ولا هانى، وكان الغرض هو أن تصل الرسالة، هانى يناطح عبدالحليم، وكانت قرصة ودن من نبيل عصمت لعبدالحليم لم يتمكن أن يرد له القرصة حتى رحيله.

إلا أن السؤال: هل من الممكن أن يصنع الإعلام فنانا؟ الإجابة القاطعة هى لا، ولكن فى نفس الوقت لا يعيش النجم بمعزل عن الإعلام، أغلب النجوم يحرصون أن تظل تلك الصلة قائمة، ولكن حليم كان يريد أن يلعب دائما الإعلام لصالحه وحده، حكى لى مثلا محمد رشدى أن أغنية (يا حسن يا مغنواتى) التى كتبها حسن أبوعتمان، ولحنها حلمى بكر بها مقطع (أنا كل ما جول التوبة يا بوى ترمينى المجادير).. وكان حليم يعد أغنية (التوبة) لعبدالرحمن الأبنودى وبليغ حمدى وبها نفس المقطع لأنها من الفولكلور، وأراد حليم التأكيد على أنه فقط صاحب السبق، فمنع الإذاعة من السماح بتداول أغنية رشدى، وبعد عام بعد أن استقرت أغنية حليم فى الأسماع سمح بأغنية رشدى، وباقى الحكاية أراد رشدى الانتقام، عندما اكتشف أن عبدالحليم سوف يغنى واحدة أخرى فى نفس الاتجاه الشعبى (على حسب وداد جلبى) وكان شاعر الأغنية صلاح أبوسالم قد باعها لمطربة حققت قدرا من الشهرة فى ذلك الزمان إلهام بديع، اشتهرت لها أغنية (يا حضرة العمدة)، عبدالحليم استمع إلى ملحنها بليغ حمدى يدندن باللحن، فقرر أن يستحوذ عليه، وبالطبع لم يسمح أحد للمطربة أن تشكو، ولكن رشدى كما روى لى اقترح عليها أن تنتحر من فوق عمارة حليم وتكتب فى خطاب الانتحار أنها بسبب سرقة أغنيتها قررت أن تتخلص من حياتها، وبالطبع لم تأخذ إلهام بنصيحة رشدى، فهو الوحيد الذى كان سيستفيد بسقوطها من سطوح منزل عبدالحليم.

لم يكن عبدالحليم شيطانا ولا ملاكا، ولكن كان إنسانا تواجد فى الوسط الفنى، به قدر لا ينكر من الشراسة، فأراد أن يحمى نفسه أيضا ببعض الدهاء مرددا الحكمة: (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب).

من المؤكد أن أسطورة بقاء حليم لم تتواصل عبر الزمن، لأنه مرة دبر مقلبا وأخرى تلقى مقلبا، (الكاريزما) التى كانت، ولا تزال تحمل إشعاعا خاصا هى التى صنعت الأسطورة، ولهذا وصفه كامل الشناوى بأنه (يصدق إذا غنى ويكذب إذا تكلم)، فهو يكذب لحماية صدقه الغنائى من الاغتيال!.