تروي كتب التراث أن الخليفة العباسي الغامض هارون الرشيد أسرف ذات ليلة في الشراب، وأثناء ملاطفة زوجته قال لها: أنتِ طالق إن لم أدخل الجنة.. وفي الصباح وبعد أن استفاق من سكرة الحب التي ذهبت بعقله، شعر بفداحة فعله، فما كان منه إلا أن جمع حاشيته وأخبرهم بما حدث طالبًا الرأي والمشورة.
ومع غرابة المشكلة وسيادة منهج الفقه التقليدي في ذلك الوقت، فقد فشلوا في إيجاد المخرج الفقهي الذي يضمن استمرار علاقته بزوجته على سُنة الله ورسوله، فغضب الرجل غضبًا شديدًا وسيطرت عليه حالة متقدمة من الاكتئاب، إلى أن تدخّل أولاد الحلال وعقدوا عددًا من حلقات الفقه في كل الأمصار ليعثروا عن مَخرَج للخليفة المنفلت اللسان، وأصبحت المشكلة قضية قومية تتناقلها الألسنة في كافة أركان الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولا تمر بها سحابة دون أن يأتي للخليفة خراجها.
عجز كل فقهاء السلطان في بغداد ودمشق عن الحل الذي يرضي الخليفة، ولم يأت الفرج إلا من مصر، التي أنجبت أفقه فقهاء الأمة الإسلامية على مر التاريخ، وهو الليث بن سعد، الذي نجح بعبقريته في إيجاد الحل الشرعي لأزمة الخليفة وبعث يخبره بذلك، فطلب من واليه على مصر أن يوفر كل التيسيرات التي تضمن مثول الفقيه المصري الكبير بين يديه في أسرع وقت، ووقفت بغداد عن بكرة أبيها في انتظار المُخلِّص، وعندما دخل الليث بن سعد على هارون الرشيد عاجله بالقول: أيها الخليفة، قل أخاف مقام ربي، فلما قالها الخليفة، قال له الليث: اذهب فأنت في مأمن من مخالفة الشرع، ثم ردد قوله تعالى «وَلِمَنْ خَافَ مَقَام رَبّه جَنَّتَانِ».. وبهذه الحيلة اقتنع هارون الرشيد ومن حضر الجلسة من الفقهاء أن المشكلة التي كادت تعصف بالخليفة انتهت على خير، فالخليفة رهن تطليق زوجته بدخول الجنة، ولكن الفقيه المصري اكتشف أن هناك جنتين لا جنة واحدة، وبالتالي لم يقع الطلاق.
ما المغزى من سرد هذه الواقعة التي روتها كتب التاريخ بأكثر من وجه؟
المعني أن العقل عندما يفكر فلا شيء يقف أمامه، ويكون بوسعه إيجاد المخرج المقنع لأعتى المشاكل.
في أزمة الإيطالي جوليو ريجيني ارتبكت أجهزة الأمن ارتباكًا شديدًا، وارتكبت بسبب ارتباكها أخطاء ساذجة، كشفت عن مستوى ذكاء من أدار الأزمة، كما كشفت عن خلو كل الأجهزة من الفقيه المُخلِّص.
لو كنتُ مكان وزير الداخلية لاتخذت قرارًا بإحالة المسؤول عن ملف ريجيني للمحاكمة بتهمة الغباء المفضي إلى الموت، فلقد نجح هذا المسؤول في وضع السكين على رقبة مصر بكاملها، وليس على رقبة الوزير وحده، ومِن ثَمّ فقد أصبحنا في حاجة مُلحّة لمن يستطيع رفعها من فوق رقابنا بحيلة من حِيَل الليث بن سعد.
ليس في مصر حاليًا من يماثل الليث في فقهه، ولكن لدينا صاحب تلك المقولة الشهيرة التي وردت في فيلم «طيور الظلام» على لسان جميل راتب، وهو السيناريست المبدع وحيد حامد.
في اللقاء الأخير بين الرئيس والمثقفين، تكلّم وحيد وحامد كثيرًا، وقدم مع زملائه الكثير من التصورات والرؤى التي يصعب على غيره أن يفكر فيها، ولا يمكن أن تخطر على قلب أي مسؤول تقليدي من نوعية فقهاء الخليفة العباسي هارون الرشيد.
لقد تسببت معالجة خبراء الأمن لدينا في أن نصبح أضحوكة في صحف أوروبا، واهتزت سمعة مصر اهتزازًا شديدًا، وتكاثرت علينا السهام من هنا وهناك، ونفخ الإخوان في النار في محاولة للكيد والانتقام والشماتة، بالطبع فلا أحد يُحمّل وزارة الداخلية مسؤولية قتل ريجيني، وليس من المستبعد عقلًا أن تكون جهة ما وراء هذه الجريمة لضرب التعاون مع إيطاليا والتأثير على قرارها فيما يتعلق بتطوير حقل الغاز الطبيعي «ظُهر» الذي اكتشفته شركة إيني الإيطالية، وكان سببًا في فزع إسرائيلي معلن، كما كان سببًا في تعيين شريف إسماعيل رئيسًا للوزراء، ألم يخطط الموساد لفضيحة لافون في خمسينيات القرن الماضي للإساءة للعلاقات مع الولايات المتحدة، ألم يخططوا لقتل خالد مشعل في عمان عام 1997 ومحمود المبحوح في دبي عام 2010؟
لابد أن نعترف أن الداخلية فشلت في تسويق هذا الطرح الوجيه، أو بالأحرى لم تعمل على التسويق له، وساهم في ذلك عاملان مهمان: الأول برودة التواصل بين الداخلية والإعلام وخلوه من الحميمية المطلوبة، أما السبب الآخر فإنه يتمثل في العزوف عن الانفتاح على العقول اللامعة خارج الوزارة، وهو ملمح لابد من إعادة النظر فيه.
ينبغي أن يدرك وزير الداخلية، اللواء مجدي عبدالغفار، أن المدرسة الأمنية التي أرسى دعائمها حبيب العادلي ويقوم منهجها على التقوقع داخل المكاتب لاصطناع هيبة وتميز عن باقي وزراء الحكومة، لم يعد مقبولًا في ظل هذه التحديات العديدة التي تواجه الوطن.
العادلي رسم لنفسه صورة رجل الأمن الصارم الذي لم يُضبَط طوال خدمته ولو مرة واحدة وهو يبتسم، ولكنه أطلق لمساعديه حرية التواصل والانفتاح على المؤسسات والأفراد، وكانت أجهزة الأمن المختلفة على صلة وثيقة بجميع أطياف الحياة السياسية والحزبية والثقافية، وهو ما لم يفعله الوزير الحالي.
والآن وبعد أن وقعت الواقعة، وبدا تشبث الطليان بموقفهم الرافض لكل روايات الداخلية عن الحادث، وبدا أيضًا استمتاعهم غير المبرر بإظهار الصلف والغطرسة تجاه كل هذه الروايات عن ريجيني، ليس أمامنا إلا خيار من اثنين.. إما أن تحدث المعجزة وينسى أولياء الدم الأمر برمته، وإما أن تستعين الداخلية بكاتب سيناريو مبدع من عيّنة وحيد حامد أو مؤلف خيال علمي مثل نبيل توفيق- وكلاهما التقى بالرئيس مؤخرًا- ليكتب أحدهما- لها ولنا- سيناريو الخروج المشرف من هذه الأزمة التي يراد لها أن تطوّق رقاب المصريين، ثم يأتي بعد ذلك وقت الحساب لكل من جنى علينا بغباء منقطع النظير.