يعرف الرئيس السيسى أن مهمته صعبة.. وإلا ما بدا كثيراً كمن يحمل هموم الدنيا.. «قارن بين قسمات وجهه قبل وبعد تولى الرئاسة».. ثمة مشاعر مختلطة لدى الرجل: إصرار وتحدٍ.. إحباط وأسى.. وحيرة من أمر مصر والمصريين..!
.. ويعرف الرئيس السيسى أن من حوله - مقربين أو مؤثرين - ألوان وصنوف.. فليس كل ما يقال منزهاً عن الهوى.. وليست كل نصيحة نابعة من حرص على مستقبل الوطن..!
لماذا أقول ذلك؟!.. لأننى فى السطور التالية سأكتب له وعنه.. «له» لأن نجاحه نصر شخصى لمن راهنوا عليه وأنا منهم.. ولأن مصر لن تتحمل إخفاقات جديدة.. و«عنه» لأن الرجل- مع إخلاصه وتفانيه- يدفعه إحباطه للانفعال أحياناً.. ويؤلمه إحساسه الدائم بأنه يحارب وحيداً فى جبهة مفتوحة، ومحفوفة بالمخاطر.. والأعداء والمكائد.. بل بـ«الأقدار»..!
سأقول لك- سيدى الرئيس- كلمة صادقة من مُحب لا يبتغى منك شيئاً.. من شخص يخشى مَنْ حولك ولكنه يخشى الله عز وجل أكثر.. من مواطن يحبك - والله - ولكنه يعشق مصر أكثر وأكثر.. أنت- وحدك- ستفهمنى.. وإن لم تقرأنى سيقولون لك: إنه يهاجمك.. وفارق كبير بين النُّصح والقدح.. ولكنها- فى كل الأحوال- كلمة.. وشرف الكلمة لا يأبه بالتأويل، ولا الاصطياد.. ولا حتى التبعات ودفع الأثمان..!
وراءك الآن- سيدى الرئيس- تجربة قاربت على العامين.. لم يكتمل فى صدرك خلالها نفس.. ولم تنم ساعة دون تفكير.. غير أن «التقييم» قاسٍ دائماً.. لماذا؟! لأنه- ببساطة شديدة- يهتم بالنتائج والثمار.. فنحن- كما تعلم- لنا فى علاقتنا مع «الحكام» شأن متقلب.. نحب ونهتف و«نبلع الزلط».. وفى لحظة فارقة نستدعى «ذاكرة السمك» ونجلد من أحببناهم.. وربما نهبط بهم من العلياء إلى «تحت الأرض».. لذا.. دعنى أذكرك بما قد يحدث يوماً فيدهشك.. وتسأل نفسك: معقولة؟!
سيدى الرئيس.. باق عام على فترتك الرئاسية الأولى.. عام وشهران بالضبط.. كيف؟!.. لا تندهش.. فالثابت والراسخ فى التجارب كلها أن السنة الرابعة من «الرئاسة» تنقسم إلى ثلاث فترات: تقييم أداء الرئيس.. معركة الترشيحات والترشحات والمنافسات وإجراءات الانتخابات.. وأخيراً فترة التسليم والتسلم «إن كان هناك رئيس جديد»..!
عام وشهران.. وسيكون من حق كل مصرى أن يسألك: ماذا فعلت؟!.. ليس جهداً ولا انتماءً ولا وطنية.. فلا أحد بمقدوره أن يشكك فيها.. وإنما أرقام وبطون وعقول وحقوق..!
أكاد أرى تلك اللحظة مجسدة أمام عينى.. ولأننى لا أريد أن أراك مدافعاً فى مواجهة الملايين ممن لم يجنوا أى ثمار.. دعنى أصارحك مبكراً بأفكار ربما أصيب فيها أو أخطئ.. غير أنها اجتهاد شخصى استقيته من أحاديث ممتدة مع مواطنين بسطاء.. وشباب متقد العقل وصادق الإحساس..!
لن يكترث الكثيرون بالمشروعات القومية الكبرى- على أهميتها- بينما لم تنخفض معدلات البطالة.. ولم ينحسر الفقر.. ولم ينزوِ المرض والجهل.. وللحق لن يكون بمقدور أحد أن يقول لـ«المصريين»: أنتم على خطأ..!.. ربما لأنه يرى الواقع دون رتوش.. وربما لأن السياسة ليست غاية فى حد ذاتها.. وإنما هى وسيلة لتحسين الحياة.. كما أن «الحكم»، أياً كان نظامه وهيئته، هو مجرد أداة للارتقاء بالإنسان فى تفاصيله اليومية..!
فى أوروبا والدول المتقدمة.. ونصف المتقدمة.. والصاعدة.. لا يحاسبون الرؤساء على «الجهد المبذول» ولا الأشخاص والدوائر المساعدة.. وإنما على «الثمار»: كم عاطلاً حصل على وظيفة؟! إلى أى حد تحقق التوازن بين الدخول والأسعار؟!.. هل توفرت العدالة فى توزيع الثروة والفرص؟!.. إلى أين وصل الاقتصاد الوطنى وقدرته التنافسية؟!.. كم مريضاً حصل على علاج بكرامة وكفاءة؟!.. وأين وصل «العقل الوطنى» فى المدارس والثقافة والإعلام؟!.. والأهم: كم مواطناً أصبح يعيش فى مسكن آدمى.. ويأكل طعاماً نظيفاً وآمناً.. ويركب «وسيلة مواصلات كريمة».. ويحمل أملاً ما فى مستقبل أفضل له ولأبنائه؟!
هنا- سيدى الرئيس- مربط الفرس.. وهنا- أيضاً- السؤال الصعب والتحدى الأكبر..!
سكان الأرض الآن عالمان: حياة.. وعيشة.. ونحن ننتمى للعالم الثانى.. العيشة.. وفارق كبير بين العيشة والحياة..!!
العيشة: أنفاس متعبة «شهيق وزفير».. ولكنه مختلف كلياً عن «الشهيق الآسيوى» و«الزفير الأوروبى».. سكن وخلاص.. دون مياه ومجارى وربما فى «عشة».. أكل وشرب أى حاجة.. قد تمتلئ المعدة بـ«لقمة بائسة».. وقد لا تمتلئ وينام «العيال دون عشا».. عقل فى الدماغ.. ولكنه جاهل يخصم ولا يضيف.. جسد ينهشه المرض وبرشامة عشوائية من «التأمين الصحى» أو «موتة رخيصة فى طرقة مستشفى».. عايشين.. نعم.. ولكن أين الحياة؟!
الحياة: لم تعد قضية نقاش أو هدفاً فى العالم.. فهم يتحدثون منذ سنوات طويلة عن «جودة الحياة»..!
جودة الحياة.. مفاهيم ورؤى وبرامج فى «الأمم المتحدة» وخطط حقيقية فى دول العالم.. وتلخصها المنظمات الدولية فى نقاط يطول شرحها: مستوى المعيشة المادى.. جودة العمل.. المشاركة المدنية.. جودة التعليم والمهارات.. نظافة البيئة.. جودة الخدمات الصحية.. الرفاهية الشخصية والاجتماعية.. الأمن الشخصى.. تطور البنية التحتية.. وحقوق وحريات وكرامة الإنسان..!
لاحظ.. أن «جودة الحياة» لا تتحدث عن «توافر» هذه الخدمات والمطالب الإنسانية.. فقد باتت أموراً محسومة منذ عقود طويلة.. لذا تركز على «الجودة».. أى الارتقاء بها أكثر وأكثر إلى حدود «الرفاهية»!
لم تعد «الحياة» التى لم تتوفر فى مصر هدفاً عالمياً.. فالتحدى أمام الحكومات والأنظمة هو «جودة الحياة»..!
فى مصر أكثر من 90 مليون مواطن.. بات أغلبهم - تحديداً الشباب - منفتحين كل لحظة على «جودة الحياة» فى العالم.. وسوف يسألون يوماً: ماذا تغير فى حياتنا؟!.. لا شأن لهؤلاء جميعاً بـ«الإخلاص».. ولا بمن اخترت- سيادة الرئيس- فى الحكومات المتعاقبة.. بل لا شأن لهم بالبيروقراطية والروتين ومعوقات الجهاز الإدارى والفساد ومناخ الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادى.. ولا حتى بمعركة البنك المركزى مع «المضاربين» على الدولار..!
الدولار تجاوز العشرة جنيهات.. والأسعار ترتفع.. هذا شأنهم.. الاستثمارات- مهما تعاظمت فى تصريحات المسؤولين- لم توفر فرص عمل كافية.. هذا شأنهم.. التعليم لايزال متخلفاً، حتى لو أقسم الوزير أنه أفضل من التعليم فى أمريكا.. هذا شأنهم.. مستشفيات الحكومة مرتع للقطط والإهمال.. هذا شأنهم.. الصرف الصحى حلم بعيد المنال فى 4 آلاف قرية.. هذا شأنهم.. أبناؤنا يدخلون السجن لأنهم عبروا عن آرائهم.. هذا شأنهم!
لن يكون المصريون حين يطرحون هذه الأسئلة بدعة بين دول العالم.. فهكذا يكون الحساب.. وهكذا يقيّمون الرؤساء والحكومات..!
سيادة الرئيس.. لابد أن يشعر المواطن بثمار الجهد والعرق والإخلاص فى عمله.. مسكنه.. جيبه.. صحته.. عقله.. ومعدته.. وإلا سوف يعيد ويكرر السؤال مليون مرة: ماذا تغير؟!.. وأنا بصراحة أشفق عليك من صعوبة السؤال..!