لا يكاد يمر أسبوع فى بر مصر، إلا ونجد هناك ذكرى، أو مَن يُحيى الذِكرى، أو مَن يحتفى بالذكرى، كلّ على طريقته، إما شِعرا ونثراً، إما خطابة ووعظاً، إما تهديداً ووعيداً، إما بتجمعات أولتراسية تهتف وتهلل، وإما بتجمعات الطوب والمولوتوف، وقد يتطور الأمر إلى جماعات المفرقعات والتفجيرات، والردود الشُرطية بالرصاص الحى والخرطوش، المهم أن كل ذكرى حسب حالتها أو مقتضياتها.
ذكرى مذبحة استاد بورسعيد، أو استاد الكلية الجوية، تختلف عن ذكرى أحداث مجلس الوزراء، أو شارع محمد محمود، بالتأكيد سوف تختلف هذه وتلك عن ذكرى 25 يناير، أو 30 يونيو، كل ذلك سوف يختلف عن ذكرى موقعة الجمل، أو أحداث ماسبيرو، نفس الحال مع أحداث ميدانى رابعة والنهضة، كذلك أحداث مجزرة الحرس الجمهورى، أو أحداث وزارة الدفاع، أو حرق أمن الدولة، أيضاً أحداث قتلى سيارة الترحيلات، أو قتل الناشطة اليسارية شيماء الصباغ، أو حتى سائق توك توك الدرب الأحمر.
المهم أن ذكرياتنا فى مجملها تحولت من ذكريات نصر أكتوبر على العدو، أو جلاء الاحتلال عن الوطن، أو حتى أعياد الوحدة الوهمية، أو العمال المطحونين، من ذكريات احتفالية، إلى ذكريات مرتبطة بالدم والثأر، بين المواطنين بعضهم بعضاً أحياناً، أو بين المواطنين والدولة فى معظم الأحيان، وذلك لسبب وحيد، وهو أنه لم يتم حسم أى من هذه الذكريات أو الوقائع حسماً باتاً، تستريح معه القلوب، وتهدأ معه النفوس، اعتماداً على أن القضاء أصدر حُكماً عادلاً، أو أن الدولة اتخذت الموقف المناسب، أو حتى الرأى العام قال كلمته.
قضايانا التى طرحت نفسها طوال الأعوام الخمسة الماضية هى فى معظمها مُعلقة للذكرى، هى ملفات مفتوحة على مصراعيها، حتى وإن تم إغلاقها رسمياً، سوف يظل الأولتراس يطالبون بالقصاص من الفاعل، وسوف يظل «وايت نايتس» يطلبون محاكمة الجانى الحقيقى، وسوف يظل أهالى قتلى ماسبيرو يطلبون محاكمات عادلة لقاتلى ذويهم، وسوف يظل القتلى فى كل مكان يحملون من الضغينة للدولة الرسمية ما تنوء عن حمله الجبال، ولِمَ لا، فالأمر يتعلق بدماء، وأرواح، وأرامل، وأيتام، وثكالى، وإلا لما سمعنا بين الحين والآخر ذلك النداء الصاعق: «الشعب يريد إعدام هذا أو ذاك».
أعتقد أنه كان لابد من حسم كل هذه القضايا والأزمات، واحدة تلو الأخرى، حسماً نهائياً وباتاً، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تقديم الجناة الحقيقيين إلى محاكمات عادلة وفورية، وذلك لأن قضايا الدم لا تسقط بالتقادم من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجتمع سوف يظل فى حالة اشتعال مستمرة لعشرات السنوات المقبلة، وهو ما لا يمكن أن تستقيم معه الأوضاع أبداً، لا الأوضاع الاقتصادية، ولا الاجتماعية، ولا السياسية، وبالتالى فنحن نقفز على الأمور إذا تصورنا للحظة أن المجتمع يمكن أن ينهض من عثرته فى ظل هذه الظروف، أو فى ظل التغاضى عن كل هذه الدماء التى سالت، سواء عن قصد، أو غير قصد.
من الواضح أننا أمام ثأر على جميع الأصعدة، وربما فى معظم المحافظات، من العبث أن نتخيل أن أصحاب الثأر يمكن أن يهدأ بالهم، أو تخمد نيران قلوبهم، والجانى أمامهم فى كل قضية، يلهو ويلعب، أو يزداد سطوة ونفوذاً، هى نار تحت الرماد، لا أكثر ولا أقل، يخرج من بطونها بعض الأدخنة فى كل ذكرى، إلا أن البركان من المؤكد سوف يقذف بحممه يوماً ما، وفى توقيت واحد، لن تفلح معه وقتها أى من عبارات التهديد والوعيد، أو حتى سيارات الإطفاء والإطماء.
حل هذه المعضلة بالتأكيد أبسط كثيراً من تعقيدها، أو محاولة طمسها، وذلك بتحديد الجانى الحقيقى فى كل قضية، بمحاكمات عادلة، بتعويض أهالى الضحايا، بالمساواة فى التعويضات، بقِصاص حقيقى من القتلة، بمحاكمة مَن روّعوا الناس يوماً ما، مَن سرق ومَن نهب، ومَن أثرى جراء هذه الأحداث، بالعمل على لم شمل المجتمع، بمواجهة سياسات ومخططات الفتن وزرع الأحقاد بين فئات الشعب، بإعادة النظر فى فضائيات وبرامج التوتر ونشر القلق والجهل بين الناس.
أعتقد أن جمهورية الذكرى، أو العيش فى جلباب الماضى، لا يمكن بأى حال أن تصنع تقدماً من أى نوع، لا يمكن أن تتجه إلى المستقبل بخطى ثابتة، أو بتفكير سليم، المواجهة واضحة طوال الوقت، بين صاحب الحق والمتستر عليه، عقلية الانتقام تخيِّم على حياتنا، كما عقلية الطرمخة والتدليس سواءً بسواء، النتيجة الطبيعية هى ما نحن فيه الآن كل صباح، جنيه لله يا مُحسنين.
الصباح على مصر أيها السادة لن يكون إلا بتحقيق العدل، وبأثر رجعى، نحن أمام قضايا لا يجوز التعامل بشأنها بمنطق «عفا الله عما سلف»، حتى لا تُفاجأ الأجيال المقبلة هى الأخرى بأنها أسيرة جمهورية الذكرى، وملفات ملطخة بالدماء، دون ذنب اقترفوه، يسددون من فواتيرها ما لا ناقة لهم فيها ولا جمل.