خطاب الخرابة (بيان الحكومة-2)

جمال الجمل الإثنين 28-03-2016 23:32


(1)
تميز بيان حكومة شريف إسماعيل أمام مجلس النواب بما يمكن تسميته «خطاب الخرابة»، فقد كشف بجرأة عن انهيار الأحوال في معظم المجالات، من غير أن يتحول هذا التشخيص السلبي إلى اعتراف بالتقصير، فالمجرمون والمجرفون راحوا، ونحن الآن في حقبة الثورتين، والله يجازيهم بقى «سابوا البلد خرابة» وكل مكان فيه ما فيه من المصائب وثعابين الفساد!

(2)
لقد احتاج الرئيس الإخواني محمد مرسي أقل من عام ليجاهر في خطاب رسمي بمصاعب دولة الثعابين، بينما تحمل الرئيس عبدالفتاح السيسي عامين ليقول نفس العبارة في مداخلة تليفزيونية، توسع بعدها في نظرية «أشلاء الدولة» ثم «الخرابة»، وهي مصطلحات جديدة لذريعة قديمة استخدمها كثير من حكام مصر ضد أسلافهم، فالسادات تسلم الخزانة فارغة من عبدالناصر (حسب زعمه)، ومبارك اشتكى من حجم الديون التي تركها له السادات، وأسس لخطاب «السنين السودا» و«اربطو الأحزمة»، وبالتالي فإن تعبيرات «الأشلاء» و«الخرابة» ليست مخيفة، لأنها مجرد إعادة إنتاج لحجج قديمة يستخدمها كل حاكم لتبرير تباطؤه في حل المشكلات الهيكلية التي يعاني منها المجتمع كما تعاني منها الدولة ذاتها.

(3)
أعتقد أن تكرار نفس الحجج والذرائع يعبر عن درجة ما من درجات الإفلاس الفكري والسياسي، وفشل الحكام في الاهتداء إلى حلول للأزمات التي يرجمون بها الشعب ليخفضوا سقف مطالبه، أو يطالبونه بالصبر انتظاراً لاكتمال طهي «طبختهم» السياسية، مع أن الوعاء الذي يضعونه على النار ليس فيه إلا الماء والحصى، وحتى لا أقع في فخ التكرار والإفلاس، فلن أتمادى في السخرية من بيان الحكومة، ولن أكتفي بالنقد أو الهجوم، لكنني سأحاول تقديم المساعدة من خلال توضيح حقيقة التحديات التي تتعلل بها الحكومة، وأيضا من خلال تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة التي تستهدف التسكين أكثر مما تصلح للعلاج وحل الأزمات.

(4)
في تقديمه للمصاعب والتحديات التي تواجه الحكومة تحدث البيان عن الزيادة السكانية، وقال بالنص: «ما زلنا نواجه تحديات ومصاعب عدة تتمثل في زيادة مرتفعة لمعدلات النمو السكاني (..) فقد وصل معدل الزيادة السنوية للسكان إلى 2.6% وهو أعلى المعدلات في العالم، ويعادل 8 أضعاف كوريا الجنوبية و4 أضعاف الصين، حيث قفز تعداد السكان عندنا من 77 مليون نسمة في 2009 إلى 90 مليون نسمة في 2015، على مساحة جغرافية لا تتجاوز 7% مما أثر في تراجع الخدمات وتأخر تطويرها ونتج عنه ارتفاع نسب الأمية ومعدلات الفقر والبطالة الفعلية والمقنعة.

(5)
هذه الرؤية للزيادة السكانية باعتبارها كارثة وعبئا، لا تتلاءم مع ما درسته أجيال كثيرة عن السكان باعتبارهم «ثروة بشرية»، ولا يتلاءم مع مفهوم «العزوة» في النمط الاقتصادي والاجتماعي الذي عاشته مصر طوال تاريخها، ولا يتلاءم ايضا مع مفاهيم «القوة الديموجرافية» التي يسعى إليها كثير من الدول المتقدمة في العالم، حتى تلك التي تتبني تمويل حملات تحديد النسل وتشجيع الإجهاض في قارة أفريقيا، ما اعتبره بعض المحللين خطة غربية لتوفير الموارد الطبيعية في هذه القارة البكر لتظل متاحة للاستغلال الغربي، فالأرقام تقول إن الكثافة السكانية في أفريقيا أقل من 50 نسمة في الكيلو متر المربع، بينما تصل في أوروبا إلى 250، وفي اليابان إلى 800، وتتجاوز الألف في تايوان وفي دول أوروبية أيضا مثل هولندا، وتصل إلى 14 ألفا في هونج كونج!!، فلماذا يتم الحديث عن السكان في بلداننا المتخلفة فقط باعتبارهم «نفايات بشرية» ومعوقات للتنمية، وعالة اجتماعية واقتصادية، و«زوائد بغيضة» حسب تعبيرات عالم الاجتماع والاقتصاد البولندي زيجمونت باومان، الذي يتهم حكومات الفساد الرأسمالي، والأنظمة الطفيلية التابعة لها، بأنها صارت تنتقص من حقوق مواطنيها وتعايرهم بحسب قدرتهم الشرائية، بل إنه حسب تعبيره صارت تتعامل مع المواطنين كعملاء، ومع المرضي في المستشفيات كزبائن، ومع الفقراء كلاجئين منبوذين في مستعمرة للجذام، تنظر إليهم بتوجس وتطاردهم أمنيا وإعلاميا، وتعايرهم بأنهم «زائدون عن الحاجة» أو «فضلات سكانية» أو «كائنات منبوذة» ليس أمامها إلا أن تفكر في الهجرة، أو تدخل حظيرة الطاعة والصمت، وتتحول مع الوقت إلى «حشرات استهلاكية» أو «خرق قديمة» لتلميع جواهر الأغنياء، والتمتع بملامسة أحجارهم الثمينة، ثم لا يجدون الشكر أو العوائد جراء هذا التلميع، بل عليهم أن يدفعوا ثمن ما علق بهم من بقايا ملامسة متعلقات السادة، في شكل ديون تنعش بنوك الأغنياء ونفوسهم المتغطرسة!
(6)
نصيحتي للمشرفين على نجاح رؤية «مصر 2030» التي أطلقها السيسي بدون دراسة كافية، أن تتم إعادة النظر في المفاهيم التي تنظر بها الدولة لتحقيق النهوض سواء في المستقبل القريب (بحد أقصى يونيو 2018) أو على المدى الاستراتيجي البعيد (2030 وما بعد ذلك)، وفي رأيي أن مفهوم السكان هو جوهر أي مشروع للنهضة، فالإنسان هو أساس التقدم، و«المواطن» هو القلب في أي تصور سياسي للدولة والمجتمع، ومن هنا يصبح السؤال: كيف ننطلق من رؤية تجعل «المواطن» قوة للتطور، وليس عائقاً أو عالة؟، وأعتقد أن هناك إجابات وافية على ذلك تضمنتها النظريات السياسية الحديثة، حتى في الدول الرأسمالية، التي استخدمت الديمقراطية كأداة فعالة لتحويل الفرد من رعية تتحمل الدولة أعباءه، إلى مواطن منتج ودافع ضرائب وممول أساسي لهذه الدولة، في مقابل عقد دستوري يحترم كرامته الإنسانية وحقوقه المتفق عليها في عقد المواطنة الذي تلتزم به الدولة، وهكذا يمكن للإنسان أن يتحرر من مزايدات الدول الفاشلة التي تحبط مواطنيها وتكبح طموحهم في حياة كريمة، لتعايرهم بعد ذلك بأنهم مجرد عالة، وكائنات طفيلية تعيش على معونات الدول المتسولة، فالمواطن المنتج الطموح المشحون بالتطلعات الإيجابية والأمل في مستقبل أفضل يستطيع (إذا حصل على نصيبه من الديمقراطية والحريات، وعلى حقوقه الدستورية في العمل والحركة) يستطيع أن يمول حياته كاملة، ويمول إلى جانبها أيضا كل الأجهزة التي تنظم وتراقب، وكل المؤسسات التي تضمن التزام الجميع ببنود العقد الاجتماعي والسياسي الملائم للعصر...

(7)
المواطن الحر يستطيع.. نعم يستطيع، أما الدول المتسولة والحكومات الكاذبة فلن تستطيع... صدقني يا شريف

جمال الجمل
Tamahi@hotmail.com