على سبيل التشكيك في الديمقراطية

إبراهيم الجارحي الإثنين 28-03-2016 22:36

بعد انتصار الولايات المتحدة وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، أصبح النظام الديمقراطي النظام السياسي الوحيد المقبول في العالم، ووصم أي نظام لا يتبع النهج الديمقراطي بأنه نظام استبدادي أو شمولي، علما بأن النظم السياسية التي تقوم عليها الدول، أو التي يمكن أن تقوم عليها الدول، تعرف أشكالا مختلفة عن الديمقراطية.
لكن ما أقرته الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد الحرب، خاصة بعد أن خرج الاتحاد السوفيتي من دائرة هذا التحالف وتحول إلى نقيض معاد، هو أن النظام الديمقراطي – الذي ترضى عنه أمريكا وتقر آلياته وسياساته وتبارك نتائج انتخاباته – هو النظام الوحيد المعترف به، وأي نظام آخر هو نظام مخالف.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحول المسعى الأمريكي إلى فرض النظام الديمقراطي في الحكم في أنحاء العالم بسياسة العصا والجزرة، وتحت مسمى النظام العالمي الجديد.
وتحت هذا المسمى احتلت الولايات المتحدة العراق وأطاحت بنظامه الحاكم، وجاءت بنظام سياسي جديد أقل كفاءة وأكثر فسادا، وحولوا البلاد إلى مسرح للصراعات الإقليمية والطائفية، لكن العراق في حالته الحالية لا يزعج الذائقة الديمقراطية الأمريكية كما كان يزعجها نظام صدام حسين.
وتحت هذا المسمى أيضا تعمل الولايات المتحدة في الوقت الحالي بدأب على إسقاط عدد من الأنظمة السياسية في العالم لأنها أنظمة غير ديمقراطية، وتدعم أنظمة سياسية أخرى لأنها توافق الأنظمة الديمقراطية التي تعتمدها واشنطن وتباركها.
الأصل أن الهدف من وجود نظام سياسي يقود أمة في الأصل هو أن يحقق هذا النظام عدالة توزيع الموارد على السكان، وأن يحقق الرفاهة والأمن للمواطنين بما يكفل لهم الكفاية والسلامة، ويحافظ على مصالحهم في الداخل والخارج.
ومعنى ذلك أن النظام السياسي ليس مسألة قياسية، وإنما مسألة تطبيقية، بمعنى أنه ليس هناك نظام سياسي مثالي يجب أن تتخذه الأنظمة السياسية كلها قدوة ورمزا، وهو ما يعني بالضرورة أن الديمقراطية ليست هدفا في ذاتها، وإنما هي وسيلة يمكن استبدالها بأخرى إذا حققت نفس الأهداف.
هذا الكلام، بعد عقود من الدعاية لصالح النظام الديمقراطي، يمكن أن يقود إلى التهلكة، ويجلب الكثير من السخرية والتشكيك، لكن الأكاديميين يعرفون جيدا أن النظام الديمقراطي به عيوب خطيرة، وأنه لا يحقق أكذوبة "حكم الشعب نفسه بنفسه".
فالمعروف جيدا أن النظام الديمقراطي يخضع لقوة الدعاية أكثر مما يستجيب للحقيقة، وفي الدول الديمقراطية يفوز المرشح صاحب الحملة الدعائية الأفضل، ويفوز المرشح الذي استعان بمدير الدعاية الأذكى، أما حقيقة هذا المرشح ومدى إيمانه ببرامجه بل ومدى كفاءته للمنصب في الأصل، فهي أمور جانبية لا أهمية لها.
ويكفي مثالا لذلك الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية على رأس موجة من التفاؤل العالمي بطروحاته التي لم يحقق منها شيئا، وها هو يوشك على الرحيل من البيت الأبيض وما زال أعظم إنجازاته هو دخوله البيت الأبيض.
والمعروف جيدا أيضا أن النظام الديمقراطي لا يصلح لإدارة المجتمعات في حالات الطوارئ، وأنه يستبدل بالأحكام العرفية والعسكرة، وأنه يستبعد وتستبعد قيمه الأساسية، كالحرية وحقوق الإنسان، لصالح أهداف الأمن والسلامة الوطنية، كما حدث في الولايات المتحدة التي جمعت مواطنيها من أصول يابانية في معسكرات اعتقال جماعية أثناء الحرب العالمية الثانية.
لكن النظام الديمقراطي في الحكم أصبح كمنطق أرسطو الذي تبنته الكنيسة في العصور الوسطى، فصار الإيمان به جزءا من الإيمان المسيحي نفسه، وعليه يصبح كل منكر للمنطق الأرسطي كافرا بالله.
فمجرد مناقشة النظام الديمقراطي اليوم تعني التشكيك في قيمة الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، علما بأن التجربة التاريخية للنظام الديمقراطي لم تكن أبدا مثالية في حفظ هذه القيم وصيانتها، ليتحول الكلام عن صلب الديمقراطية وجدواها إلى تابوه كالتابوهات التي تدعو الديمقراطية نفسها إلى إسقاطها.
لكن الأمر يستحق من شعوب مثلنا ما زالت تتحسس طريقها نحو نظام سياسي مناسب أن نفتح الجدل حول النظام الديمقراطي جذريا، ودون الاحتفاظ بأي مسلمات مسبقة، وليكن أول ثابت نكسره هو تابوه التشكيك في جدوى الديمقراطية ذاتها.