كل الشواهد تؤكد أن هناك شيئا ما، يحاك بمصر الآن على المستوى الدولى، قضية الشاب الإيطالى بتطوراتها الحالية، في البرلمان الأوروبى بصفة خاصة ليست طبيعية أبداً في ضوء الأحداث المشابهة في كل دول العالم، التعنت الإثيوبى في إنشاء سد النهضة ليس طبيعياً هو الآخر، بما يشير إلى أنه وجد دعماً دولياً على كل الأصعدة، ماديا وفنياً وعسكرياً، الصحف الأمريكية وآخرها نيويورك تايمز، دأبت في الآونة الأخيرة على التحريض تجاه إعادة النظر في العلاقات مع مصر، بل وقطع العلاقات، المنظمات الدولية وحتى الأفريقية منها، لم تعد تألوا جهداً في توجيه إدانات قاسية لمصر تجاه جميع الملفات المتعلقة بالقضاء والشرطة والقانون والدستور وحقوق الإنسان، وكل شىء تقريباً.
أعتقد أننا يجب أن نكون أكثر شجاعة، نتحسب لكل المستجدات، نتعامل من الآن فصاعداً مع ذلك اليوم الذي قد نجد أنفسنا فيه عُرضة لأى عقوبات من هنا، أو قطع علاقات من هناك، بيان الحكومة الأخير أشار إلى أن حجم وارداتنا من الخارج بلغ ٦١ مليار دولار خلال عام ٢٠١٥، يجب أن نعى أن المجتمع الدولى بات موحداً تجاه سياسات ومخططات واضحة، ليس الآن فقط، وإنما قبل مائة عام تحديداً، منذ اتفاقية سايكس بيكو عام ١٩١٦، والتى أصبحت الآن على طاولة البحث والتعديل في عام ٢٠١٦، حسبما جاء في نص الاتفاقية «مراجعتها بعد مائة عام»، لتصحيح ما ظهر بها من أوجه الخلل.
كان عراق صدام حسين هو النموذج الأمثل في مواجهة مثل هذه المخططات المتعلقة بالعقوبات وفرض الحصار، كان الحصار على كل شىء في العراق، على كل الموانئ، برية وبحرية وجوية، شاهدتُ بعينى رأسى آثار الحصار على الشعب العراقى، شاهدت أيضاً أساليب المقاومة والتحدى، ذهبتُ إلى العراق في مهمات صحفية متعددة خلال سنوات الحصار الثلاث عشرة «١٩٩٠- ٢٠٠٣» الأهم من ذلك أن الحصار جاء في أعقاب قصف دولى بالطائرات، طال كل البنية التحتية والفوقية هناك.
القصف طال كل الكبارى أو الجسور في أنحاء الدولة العراقية، ما كبر منها وما صغر «٢٥٣ جسرا»، طال كل محطات مياه الشرب، كل محطات تموين السيارات بالوقود، أبراج الاتصالات، الطرق، آبار النفط، الموانئ، المطارات، باختصار: عاد العراق إلى القرون الوسطى، وهو التعبير الذي قاله جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكى آنذاك، لطارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقى خلال آخر لقاء بينهما في جنيف قبل بدء القصف بأيام قليلة.
المهم أن الشعب العراقى خلال سنوات الحصار، حقق المعجزة، أعاد بناء كل ما دمره ذلك العدوان تقريباً، الأهم من ذلك، أنه خلال سنوات الحصار، وصلت مياه نهر دجلة إلى محافظة البصرة في الجنوب (٥٠٠ كيلو متراً)، وهو الأمر الذي ترتب عليه توسعاً زراعياً غير مسبوق، على امتداد كل تلك المساحة، على ضفتى النهر الجديد، وذلك بتوزيع تلك الأراضى بواقع خمسة، أو عشرة أفدنة، على كل طوائف الشعب، من عمال، وموظفين، ونقابات، وغيرها، في ظل فترة ضنك عانى الشعب خلالها من عدم وجود رواتب شهرية، تدنت في أعقابها قيمة العملة العراقية لما تحت الصفر، لم يكن لها أي قيمة مع العملات الأخرى، إلا أن الشعب بعد نحو أربعة أعوام أصبح في معظمه يأكل من إنتاج يده، من أرضه، ومن عرقه.
بموازاة ذلك، قاد الرئيس العراقى هناك ما يعرف باسم الحملة الإيمانية، التي من خلالها، بالمساجد والمدارس ووسائل الإعلام، تم تمرين الناس على الصبر على البلاء، والرضا بقضاء الله، وأصبح حفظ جزء واحد من القرآن الكريم شفيعاً لمدين، وحفظ ثلاثة أجزاء شفيعاً لسجين، وهكذا بات الإيمان بالله هو أساس المقاومة، في ظل معاناة لا يمكن إنكارها فيما يتعلق بوقف الاستيراد، حيث فقدان الأدوية، والأسمدة، والبذور المخصبة، والتكنولوجيا، وغير ذلك كثير، إلا أن العراقيين قد استفادوا من هذه الحالة كثيراً، انطلاقا من نظرية «الحاجة أُم الاختراع» فصالوا وجالوا في الإبداع بمجالات عديدة.
على أي حال، كنت أرى دائماً، ومازلت، أن الأمة العراقية هي الوحيدة في العالم التي كان يمكن أن تتحمل حصاراً بهذه القسوة، نظراً لما بالبلاد من خيرات النخيل والألبان من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تلك الاستراتيجية التي تعاملوا بها مع الحدث، فكم من التجار تم قتلهم نتيجة مغالاة في الأسعار، وكم تم شنقهم نتيجة تخزين السلع، وكم تم رميهم بالرصاص نتيجة الاتجار في العملة، إلى غير ذلك من كثير، إلا أن أهم ما علق بذاكرتى حتى الآن، إلى جانب الحملة الإيمانية المشار إليها، هو أن كل مواطن تقريباً كان لديه قطعة أرض، يعيش عليها ويقتات منها.. هذه هي الرسالة، التي أردت التأكيد عليها، حتى لا تستمر سياسة احتكار الأراضى لدى فئة قليلة، وحتى لا يستمر الملحدون في غيهم، تحت زعم الثقافة وحرية الإبداع.
الرواتب الشهرية أيها السادة، خلال الأزمات قد تذهب إلى الجحيم، البنوك قد تختفى، الدولة الرسمية قد تكون في واد آخر، إلا أن الناس لا يجب أن يأكل بعضهم بعضاً، لا يجب أن يكون السلب والنهب هما القاعدة، سوف يتحقق ذلك الهدف في حالتين فقط لا ثالث لهما، حالة الإيمان بالله كما يجب، والتوزيع العادل لأراضى الدولة على كل أفراد الشعب، وتباً للشركات، والإقطاعيين، والانتهازيين، والفاسدين، وأيضاً الفاسقين.