الصفر!

جمال أبو الحسن الأحد 27-03-2016 21:13

ثمة لغز كبير فى التاريخ البشرى اسمه الصفر. هذا العدد المُراوغ العجيب حيّر العالمين زمناً طويلاً. هو صار اليوم إحدى الدعائم الكُبرى فى حضارتنا المعاصرة. كيف؟

إن كنت تقرأ هذا المقال على حاسبك الآلى أو هاتفك الذكى فلتعلم أن الكلمات التى تقرأها «مُشفرة». كلُ كلمة أو صورة تُطالعها على الإنترنت تعتمد على شفرة بسيطة: صفر/ واحد. إنها أيسر شفرة اخترعها البشر. شفرة مكونة من عددين. واحد يعنى مرور التيار الكهربى، وصفر يعنى قطعه. من هذه الشفرة البسيطة وُلد عالم تكنولوجيا المعلومات الذى نعيشه اليوم.

ليس الأمر مقصوراً على التكنولوجيا الرقمية. الحالُ أن النظام الذى نستخدمه اليوم فى العد يرتكز كُلياً على الصفر. سر عبقرية هذا النظام هو أن العدد يستمد قيمته من مكانه. مثلاً: فى الرقم 85، قيمة العدد 8 هى فى الواقع 80. يحتاج هذا النظام إلى رمز يُعبر عن «لا شىء» كما فى خانة الآحاد للرقم 80. من هنا ولد الصفر..

ولكن هل استخدمه البشر من قديم الأزل؟

للصفر تاريخٌ عجيب حقاً. طالعتُ مؤخراً طرفاً من هذا التاريخ المشوق فى كتاب Numbers: The Universal Language (الأعداد: اللغة الكونية، صادرٌ فى سلسلة New Horizons). الكتاب يروى قصة الإنسان العجيبة مع الأعداد، وعلاقتها بتطور الفكر التجريدى الذى يفصل بين الأشياء والعدد كفكرة مُجردة. أتذكر كيف كانت ابنتى تُصر على أن ثلاث تفاحات وخمس تفاحات تساوى ثمانى تفاحات، إلا أن الأمر يختلف تماماً بالنسبة للبرتقال! إدراك معنى الأعداد «كفكرة مجردة» كان قفزة كبيرة للخيال الإنسانى.

البشر اكتشفوا سريعاً أن منظومة العد لها بداية، ولكنها تستمر إلى مالا نهاية. تعيين لفظ ورمز منفصل لكل رقم لا يُمثل حلاً عملياً. كان لابد من ابتداع نظام يختزل الأرقام فى مجموعات بحيث نحتاج إلى رموز أقل. لهذا السبب فإن أى نظام للإحصاء له «أساس للعد». الأساس فى نظامنا هو الرقم عشرة. بعشرة رموز فقط يُمكنك التعبير عن أى رقم فى الدُنيا. إنها أخطر «شفرة» ابتدعها البشر!

النظام العشرى اختراعٌ حديث نسبياً. السومريون (الحضارة الأولى التى ازدهرت فى بلاد الرافدين منذ 5 آلاف عام) اتخذوا من الرقم 60 قاعدة لنظام العد. هو رقم ساحر حقاً لأنه يقبل القسمة على عدد كبير من الأعداد. من وحى الرقم 60 جاءت فكرة تقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، فضلاً عن تقسيم الدائرة إلى 360 درجة (من مضاعفات الستين).

ماذا عن الصفر؟ البابليون عرفوا الصفر، ولكنهم لم يستخدموه كعدد مُستقل. لسبب ما، اختفى الصفر من التاريخ قروناً طويلة. لم يأخذه اليونانيون عن البابليين فيما أخذوا عنهم. اليونانيون والرومان استخدموا نظاماً عقيماً يوظف الحروف فى التعبير عن الأرقام. كان نظامهم خلواً من مفهوم الصفر.

الصفر فكرةٌ فلسفية مُلغزة. كيف للإنسان أن يستوعب ويُدرك أن «اللاشىء» هو بالفعل شىء؟ رُبما لهذا السبب وُلد المفهوم فى الهند بالتحديد. الهندوسية والبوذية تتميزان بتُراث روحى فريد. هذا التُراث يسمح بتصور مفهوم «اللاشىء». على أن المُحرك الرئيسى وراء اختراع الصفر كان تُجارياً. مع تعقد شبكات التجارة فى الشرق، لم يعد ممكناً تسجيل الحسابات من دون منظومة تُميز بين حساب الدائن والمدين. فى القرن الخامس الميلادى، ظهر مفهوم «الصفر» كنقطة تعادل ضرورية لحساب المكاسب والخسائر. هكذا ظهرت الأعداد الهندية، ومعها النظام العشرى البسيط والعبقرى الذى نعيش به اليوم. سافرت الأعداد فى رحلة مجيدة من الهند إلى قلب الإمبراطورية العربية، فشمال أفريقيا، فإسبانيا، ثم إلى أوروبا. هذه الرحلة استغرقت ثمانية قرون. الأرقام التى تُستخدم فى أنحاء العالم اليوم تُدعى الأرقام العربية، ولكن أصلها يعود إلى الهند. اختراع الصفر أطلق نوعاً مختلفاً من التفكير. فتح المجال أمام التمييز بين الأعداد السالبة والموجبة. هكذا ظهرت تصورات رياضية أكثر تجريداً كان بطلها الأهم هو «أبوبكر الخوارزمى». إسهام هذا العالم المسلم الفذ كان ثورة حقيقية مهدت السبيل أمام الثورة العلمية فى أوروبا.

افتتان البشر بالأعداد لم يتوقف عند توظيفها فى الحساب والتجارة والعلم. أغلب الثقافات والأديان تنظر للأعداد بوصفها رموزاً مشحونة بالدلالات. مثلاً: الرقم واحد يعكس الوحدانية الربانية، استحالة الانقسام، المبدأ الكُلى الأول، التفرد. الرقم اثنين يُمثل الازدواجية: ثنائية الخير والشر، الضوء والظلام، المرأة والرجل، الله والشيطان. الرقم ثلاثة له علاقة وطيدة بعقيدة التثليث عند المسيحيين. الرقم ستة يُذكرنا على الفور بأيام الخلق، والرقم سبعة بالسماوات السبع، وبالسنوات العجاف فى قصة يوسف. الرقم 13 يستحضر مشهد السيد المسيح والحواريين فى العشاء الأخير.. وهكذا.

من بين هذه الأعداد جميعاً يظل الصفر أكثرها غرابة. هو يُعبر عن الفراغ والخواء، ولكنه- مع ذلك- حاضر ومؤثر. أزعجنا صغاراً بعد أن حذرنا مدرسو الحساب من استحالة قسمته على أى رقم لأن الناتج لن يكون له معنى. ثم صار «بعبعاً» لنا أيام الامتحانات: «لو جاوبت كده ح تاخد صفر!». تحققت هذه «الحالة الصفرية» بالفعل فى واقعتين معاصرتين: الأولى فضيحة صارت تُسمى بصفر المونديال (عدد الأصوات التى حصلت عليها مصر فى 2004 فى مسابقة تنظيم كأس العالم)، والثانية هى القضية الغامضة الشهيرة بـ «طالبة الصفر»، وبطلتها فتاة صعيدية ذكية، وغريبة الأطوار! حصلت على صفر فى امتحان الثانوية العامة. فى الحالتين كان الصفر مقروناً بالدهشة والحسرة.

وفى عالم السياسة، يبقى رد سعد زغلول المُفحم على عبدالرحمن عزام- عندما اقترح عليه الأخير سنة 1925 إنشاء رابطة عربية إسلامية- من أروع صور استحضار مفهوم الصفر. أطلق زغلول ساعتها جملته المأثورة: «صفر زائد صفر يساوى كام يا عزام؟». من أسف أن تظل هذه المعادلة صالحة ومُعبرة وكاشفة للحال.. بعد مرور كل هذه السنوات!

gamalx@yahoo.com