يخرب بيوتكم..الفايش بـ«16 جنيه»..!

علاء الغطريفي الأحد 27-03-2016 21:13

لم يكن صوتها سوى صرخة سمعتها من كثيرين، لكن هذه المرة كانت الحرقة أكبر وحجم الألم بدا فى الكلمات القاسية التى بدأت باللعنات حتى خراب البيوت، فالسيدة الخمسينية لم ترغب أن تسأل البائع مباشرة، بل كانت تنتظر آخر اشترى قبلها لتسأله، لم أدرك أخجلاً أم أنها تتجنب الشجار مع البائع فى ظل الغلاء، باغتت الرجل الذى كان سارحاً فى ملكوت الله: اشتريته بكام الكيلو؟ فكان رده بـ«16 جنيه»، علا صوتها فى الشارع «يخرب بيوتهم هيودونا لحد فين؟»!.

السلعة التى كانت تسأل عنها ليست إلا منتجا يعرفه الصعايدة يسمى «الفايش»، ليس رفاهية بل هو جزء من ثقافة الحياة لساكنى مصر العليا، فهو ضيف دائم على مائدة الإفطار، وأحيانا مع العشاء، وقد يكون وسيلة جيدة للهروب من الإنفاق على الطعام، ستقول لى دعنا نسأل عن أشياء أكثر أهمية من هذا «الفايش»، سأخبرك شيئا عن هذا المنتج الذى كان يصنع فى المنازل عبر السنين ولم يكن يباع فى الأصل، كان يمثل هدية يجرى تبادلها فى المناسبات والأعياد، بل هى طقس مجتمعى للتشارك، لن أدخل بك دوامات التفسير الاجتماعى فقط أردت التوضيح، لم تكن صرخة السيدة التى دوت أمامى إلا صيغة احتجاج رأيتها وسمعتها كثيرا فى زيارة أخيرة للصعيد تعكس أمورا ربما لا يراها سكان العاصمة أو السلطة نفسها التى فيما يبدو يتلخص الناس عندها فى صورة جيوب تمشى على الأرض لمساعدتها بطريقة «صبّح على مصر»، فى حين أن صباحات الحياة عليهم أشد قسوة..!.

إنه الفقر الذى لم يعد للناس حتى التأقلم مع سطوته فلم تفلح معه المحاولات القديمة للتحايل والاستمرار، ومنها «الفايش»، يتقاسمون الشكوى بشأنه ليل نهار حتى عادت الجملة الكلاسيكية المصرية «إحنا رايحين على فين؟»، فلم تعد سؤالا، بل صارت تعبيرا عن حالة يعيشها المصريون، لن تقاومها عبارات من قبيل «مش هاضيعكم» ولن يهدأ بال ملايين بتطمينات «هنبقى أد الدنيا»، فالمسألة عند هؤلاء أبسط بكثير مما تتداوله منابر التأييد، الأمر يتعلق بأن يشعر هذا وذاك من المواطنين بأن تحسين حياته مسؤولية السلطة، وأن يترجم ذلك ليكن مثلا «سيزيد دخلك السنوى فيصبح كذا» مثل أى دولة محترمة أو حتى دولة مرت بظروفنا وأرادت المستقبل..!.

لا يثق هؤلاء فى سرادقات الاحتفالات والافتتاحات والتفريعات، بل يثق فى سعر الطماطم وكيلو اللحمة وتعريفة المواصلات ومصاريف المدارس وتكلفة العلاج، فإنجاز المشاريع العامة لا يحقق من وجهة نظره أى فائدة على حياته.. هكذا يظن، فقد رأى بعينيه عبر سنوات نفس المشاهد على شاشات التلفاز، ومعها نفس أصوات مذيعى قطاع الأخبار «مصر تذهب للمستقبل فى حضرة القائد، والطفرة الحضارية التى ستتحقق وسنصبح فى مصاف الدول الكبرى»، عليك أن تكتب مثلا «الرئيس مبارك يفتتح» وستصعق مما ترى وإليك عينة من ذلك «https://www.youtube.com/watch?v=RZUStiJRhkk»، ولن تغالب ضحكك من نفس طريقة الإخراج لتلك المناسبات، وبالروح والدم نفديك يا ريس..!.

السياسات العامة.. إن لم يشعر المواطن بأنه هدفها بالإيجاب فسيدير ظهره لها حتى وإن «صبح على مصر»، فهو يرى- وهو ما يجرى على ألسنة ملايين المصريين- أنه المستهدف بالسلب، فتفاصيل حياته يدفعا ثمنها مضاعفا اليوم رغم الوعود الوردية عن تغيير الواقع والحياة.. حرام عليكم الفايش بـ«16 جنيه» بصوت السيدة الصعيدية..!.