(1)
من يصدق أن المعلم مدبولى رجل البر والإحسان الذي لاتفارق السبحة يده والحريص على الصلوات الخمس في المسجد- هو القاتل الذي يبحث عنه الصول خميس في رصيف نمرة 5.. المظاهر قد تكون خادعة ومفارقة للجوهر، فأحدب نوتردام البشع الخلقة هو أكثر الشخصيات إنسانية ورحمة في رواية «فيكتور هوجو»، المفتش كولومبو الشارد الذهن ذو العين نصف المغلقة والذى تبدو عليه البلادة بمعطفه العتيق ومشيته بلا مبالاة- هو فى الحقيقة محقق لماح شديد الذكاء يتابع بدقة كل التفاصيل التي تغيب عن نظر أقرانه، تواضع مظهره يخدع المتذاكين من أمثالنا الذين يتسرعون في كل مرة في تقديم المجرم في الجرائم التي تشغل الرأى العام، أدلتنا سابقة التجهيز، فهى مجموعة من الملابسات التي نمطها عقلنا، ويخرجها من صندوق اللاوعى في المواقف التي تتشابه ظاهريا.
(2)
كل روايات الكاتبة الإنجليزية الشهيرة أجاثا كريستى تدور حول مفهوم الدافع والفرصة، فهناك دائما عدد كبيرمن المتهمين في الجريمة التي تدور حولها الرواية ، الجميع تطالهم الشكوك وتحوم حولهم الاتهامات، ومن بين هؤلاء يكون هناك واحد لديه الدافع الأقوى، وهو دائما دافع خفى عن أنظار الآخرين، وأيضا الفرصة المواتية، حين يجتمع الدافع بالفرصة تحدث الجريمة التي تبدو لغزا غامضا على من يسيرون وراء الآثار الظاهرة للعيان والتى تكون في الغالب خادعة. وقد خلقت كريستى شخصيات لا تنخدع بالمظاهر: المفتش هركيول بوارو وميس جين ماربل ليتوافقا مع نظرتها للحياة: أنها ليست كما تبدو.
(3)
منذ عثور السلطات الأمنية على جثة الشاب الإيطالى جوليو ريجيني وعلى جسده آثار تعذيب، توجهت اصابع الاتهام فورا إلى الداخلية، الوزارة الأمنية لديها سجل حافل وسيئ السمعة في تعذيب المتهمين والمعتقلين في أقسام الشرطة والسجون، ولأن القضية لم يفك غموضها حتى الآن، ولم تصل الداخلية للجناة، استمر اتهام الداخلية هو الأعلى ترجيحا لدى الكثيرين، حتى بعد بيان الداخلية الذي ذكر فيه متعلقات لريجينى وجدت في منزل أحد أفراد عصابة قامت الشرطة بتصفيتها أثناء تبادل إطلاق النار معها، وهى عصابة اعتادت سرقة الأجانب والتخفى في زى ضباط شرطة وملكيتهم لبطاقات مزورة، وكان من المتوقع والمنطقى أن تحرص الشرطة على القبض على بعض أفرادها أحياء للتحقيق معهم ومعرفة المزيد عن نشاطهم الإجرامى، وهو ما لم يحدث، مما زاد من ريبة الناس في بيان الشرطة.
(4)
هل تتذكرون شخصية المفتش «كرومبو» التي ابتكرها مخرج الرسوم المتحركة الراحل هيثم حمدى، وكان يقلد فيها شخصية كولمبو ذائعة الصيت في سبعينيات القرن الماضى، أنها النسخة المصرية المقلدة،وكعادة التقليد الرخيص وليس «الهاى كوبى»جاءت النتيجة سطحية ليس فيها حبكة قوية ولا لغز غامض، وكان جمهوره من الأطفال والبسطاء، وهو شىء لا أدينه، فبرامج التسلية مسموح بها حتى ولوكانت خالية من المنطق وأعمال العقل، لكن في الحياة، فالأمر صعب.
جسد عدد كبير منا دور المفتش كرومبو في قضية ريجينى، المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعى سيجد تعليقات من أشخاص ارتدوا معطف كولمبو الشهير يقدمون أدلة إدانة الداخلية وفبركتها لحبكة رخيصة تزيح عنها عبء اتهام الرأى العام الأوروبى بالتقاعس عن إيجاد المذنب في قضية ريجينى، تم تداول بوستات لوائل غنيم وباسم يوسف وكأنهما من عملاء الإف بى آى، أو أحفاد شارلوك هولمز، تحول الأمر لمولد، وكأننا في أوبريت الليلة الكبيرة، وتحمس البعض إلى الحد الذي نشر على صفحته مقتطفات من الصحف الإيطالية التي لم يدخل عقلها بيان الداخلية، وكأن الصحافة الإيطالية معيارية، وبعيدة عن إعلام البحث عن فضيحة!! في حين كان رد فعل السلطات الإيطالية الرسمية محايد ومنطقى في انتظار انتهاء التحقيقات وهو ما تجاهله هؤلاء.
بيان الداخلية الذي اختلفوا عليه لم يرد فيه أي جملة تدل على أن الداخلية تدعى أنها أمسكت بقاتل ريجينى، ولكنها تذكر واقعة وجود بعض متعلقاته في منزل أحد أفراد العصابة الذين قتلوا في تبادل إطلاق النار مع قوات الأمن، والأمر بعد ذلك رهن التحقيقات لمعرفة صلة هذه العصابة بمقتل ريحينى من عدمها.
(5)
بعقلية أجاثا كرستى ومفهوم شارلوك هولمز وذكاء المفتش كولومبو دعونا نفكر في قضية مقتل ريجينى، ما هى داوفع الداخلية لمقتل باحث إيطالى وإلقاء جثته في العراء في أول طريق «مصر- الإسكندرية» الصحراوي وعلى جسده آثار تعذيب؟ توقيت اكتشاف الجثة توافق مع زيارة وزيرة التنمية الاقتصادية الإيطالية لمصر، والتي قطعت زيارتها وعادت لروما قبل إتمام مهمتها بالقاهرة، وهو ما أحرج بالتأكيد النظام. فإذا كانت الداخلية لديها دوافع غامضة لقتل ريجينى، فهل وصل بها الغباء إلى حد الكشف عن هذه الجريمة في هذا التوقيت؟
أنا لا أدافع عن الداخلية، فسمعتها وأفعالها لا تشجع، ولكننى أدافع عن العقل والمنطق الذي غاب عن حياتنا، الشماتة والكيد والكراهية والرغبة في الانتقام تعمينا عن أبسط الحقائق وتسلبنا القدرة على النظر للأمور بموضوعية.
وفى النهاية الخاسر ليس الداخلية، ولكن مصر والمصريون.
EKTEBLY@HOTMAIL.COM