المصريون هنا وهناك

عبد الناصر سلامة السبت 26-03-2016 21:25

فى دول عديدة بالمنطقة، وعلى امتداد النصف الثانى من القرن العشرين بصفة خاصة، وضع المصريون الأساس لكل شىء تقريباً، السياسة التعليمية، كما المنظومة الصحية، كما الإعلامية، كما الثقافية، كما الأمنية، وأيضاً التشريعية ووضع الدساتير والقوانين، فى الدبلوماسية، كما فى المراسم والعلاقات العامة، فى البيئة، كما فى المرور، كما فى الإدارة، كما فى الانضباط، فى الدين، كما فى الأخلاق، كما فى مبادئ حقوق الإنسان، كانوا بحق سفراء فى جميع المجالات، ما صغر منها وما كبر، ما ظهر منها وما بطن، باعتراف من تلقوا التعليم والتدريب، باعتراف أصحاب الأرض، وليس أى شىء آخر.

لماذا نجح المصريون بالخارج وفشلوا فى الداخل، لماذا لم يستطيعوا تفعيل أفكارهم وخبراتهم بالداخل مثلما فعلوا بالخارج، لماذا آثروا الهجرة أساساً، وتركوا وطنهم الذى كان فى حاجة إليهم، وهل كان الوطن فى حاجة إليهم بالفعل، أم أنه كان يعانى تخمة الخبرات والمؤهلين، الذين لم ينتبه إليهم أحد، لماذا أخذ المجتمع فى التراجع على جميع الأصعدة، بدءاً من ذلك التاريخ، ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وبدأت الأمم الأخرى، أفريقياً وعربياً تنهض، منذ ذلك التاريخ أيضاً؟

إذا كان هناك خطأ ما على مدى ٦٤ عاماً، لماذا لم يتم تداركه، إذا كانت النخبة الحاكمة قد فشلت على مدى ما يزيد على ستة عقود، ما الذى جعل الشعب يتحمل كل هذا الفشل، وكل هذه السنوات، ما الذى فعلناه حتى نتدارك الأمر، لماذا لم يسع الشعب إلى التغيير، ولماذا يقبل بالأسوأ دائماً، لماذا لم نحاول الاستفادة من النخبة الحقيقية كما يجب، النخبة المتخصصة، كلٌ فى مجاله، لماذا لم نحاول استدعاء هؤلاء البارزين فى مواقعهم خارج الوطن، الأرقام تتحدث عن عشرات الآلاف من العلماء النابهين فى تخصصاتهم، لماذا يقضون بالكاد عطلاتهم فى الوطن، ويهرعون فوراً إلى حيث أتوا؟

هل نحن مجتمع طارد بطبيعته، أم أن هناك من يتربصون بالخبرات الحقيقية، هل وصل الفساد إلى حد اضطهاد النابغين والنابهين، هل هناك من يتربص بهم الدوائر لحساب نخبة فاشلة لا تتغير من اليسار والشيوعيين، حتى وإن تغيرت أسماؤها إلى حد ما؟.. على مدى العقود الستة سوف نرى توريثاً للوظائف القيادية فى أبشع صوره، فى الإعلام، كما فى القضاء، كما فى الشرطة، كما فى الدبلوماسية، كما فى مواقع كثيرة، ليست لدينا شجاعة الإشارة إليها، هل كان ذلك هو سر الفشل العام، أو سر التراجع الغريب، الذى جعلنا فى ذيل الأمم، بعد أن كنا فى مقدمتها؟!

أعتقد أن المرحلة الراهنة تستدعى الاعتماد على أهل الخبرة، وليذهب أهل الثقة إلى الجحيم، المرحلة تستدعى الاعتماد على النخبة الحقيقية، بدلا من تلك النخبة المدعية، التى جعلت من نفسها وصية على البلاد والعباد، دون سند منطقى، من المهم البحث عن خبرات مصر فى الخارج، كما فى الداخل سواء بسواء، لتسعهم بيوتهم هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم خبراء استراتيجيين دون سبب معلوم، لتسعهم بيوتهم أولئك المتقاعدين الذين يتقلدون مناصب ما لهم بها من علم، على حساب من هم أولى بها، لتسعهم بيوتهم هؤلاء الذين اقتحموا عالم الأعمال فى غفلة من الزمن، فزادوه فساداً وإفساداً.

مصر أيها السادة لن تنهض إلا بعد وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، بدءاً من أعلى قيادة بها حتى الوظائف الدنيا، لا العواطف سوف تنهض بمصر، ولا الوعود سوف تحل مشاكلها، لنستعن بخبرائنا الحقيقيين، بأهل مصر الطبيعيين، دون توريث، ودون تقارير أمنية، ودون البحث فى التوجهات السياسية، لم يكن مناسباً أبداً البحث عن شركة أجنبية لبناء العاصمة الإدارية، أو الاستعانة بمطرب غير مصرى لإحياء ذكرى انتصار أكتوبر، أو بتليفزيون غير مصرى لمداخلة الرئيس، أو بشركة غير مصرية لتنظيم مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، أو حتى بمستثمرين غير مصريين، مع إحجام رأس المال المصرى عن المشاركة.

كل التجارب خارج الخبرات المصرية أثبتت فشلها، وكل التجارب خارج الخبرات الحقيقية أثبتت أيضاً فشلها، بقى فقط أن نعترف بالفشل، ونسند الأمر إلى أهله دون مكابرة، ودون استخدام للغة القوة، فى شؤوننا المدنية المنتجة، فلا لغة «الفرم» قد نهضت بمجتمعات فى السابق، ولا لغة «المسح من على وش الأرض» يمكن أن تنجح فى اللاحق.