يكلمك عن الزهد وتقوى الله وهو يركب سيارة «هامر»!

أحمد الشهاوي السبت 26-03-2016 21:43

تكفير المفكِّر ليس بدعةً، وإنما هو قديمٌ قدم تراث العرب منذ ظهور الإسلام، إذ إن الكسول والخامل والغبى لا ذكر لهم فى كتاب العقل، حيث لا تحفظ الذاكرة من ليس لهم أبجدية، ولا متن، ولو عُدنا إلى تراث الأسلاف، وعدَّدنا المحن التى مرَّ بها الفلاسفة المسلمون والمتصوفة والشعراء والفقهاء والأئمة، لوجدنا من اغتيلوا أو صُلبوا أو قُتلوا يفوقون العدد الذى سجَّلته كتب المحن والتعذيب والصلب والتمثيل بالمُعارضين أصحاب الفكر أو المعتقد الآخر.

ولقد مرَّ علينا زمانٌ من يتجنَّس فيه بجنسيةٍ أجنبيةٍ صار مُرتدًّا، وخارجًا من الإسلام، وصدرت فتاوى لكثيرين تُخرِج المتجنِّس المسلم من الدين، ولعل أشهرها ما جاء به محمد رشيد رضا:

«لا خلاف بين المسلمين فى أن قبول الجنسية رِدَّة صريحة، وخروجٌ من المِلَّة الإسلامية، والجنسية تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة»، وهى فتوى مضحكة مبكية من فرط سذاجتها وتهافتها، وتلاعب صاحبها بالعقول، حيث يرى الناس بهائم لا تُدرك ولا تُبصر ولا تفكِّر.

كما مرَّ- أيضًا- علينا زمانٌ منْ كان ينتقد فيه الخلافة العثمانية صار من الزنادقة والمارقين والمرتدين، حيث إنَّ الخلافة وقتذاك- ولاتزال- قد نالها التقديس على أيدى الشيوخ العابثين بالدين الصحيح، والمؤازرين للسلطان، أى سلطان مهما يكن شأنه، وما اتهام على عبدالرازق (1305هـ/ 1888- 1386هـ/ 1966) صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدر سنة 1925م، بالكُفر إلا لكونه قد انتقد الخلافة العثمانية فى عشرينيات القرن الماضى، وما تكفيره إلا قرار سياسى وليس دينيًّا، وجاء لصالح الملك فؤاد الأوّل (ملك مصر)، الذى كانت تريده العمائم الأزهرية خليفةً للمسلمين، بعد أن سقطت الخلافة العثمانية، ورأوا أن القاهرة هى المؤهلة لأن تكون عاصمةً للخلافة الإسلامية، خُصوصًا أن فيها الأزهر، ولم يستوعب الأزاهرة قول ابن أزهرهم الشيخ على عبدالرازق من أن «التاريخ يُبيِّن أن الخلافة كانت نكبةً على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شرٍّ وفساد»، وبسبب كتابه ذاك طُرد من زمرة العلماء، وفُصل من وظيفته فى القضاء، وسُحبت إجازته العلمية من الأزهر، وهو الكتاب الذى سيكون بعد ذلك واحدًا من أكثر الكتب توزيعًا وطباعةً وشُهرةً وتداولاً خلال حوالى قرنٍ من الزمان، وبالمناسبة هو أمرٌ عادىٌّ أن نجد أزهريًّا يكفِّر أزهريًّا متهمًا إياه بالكُفر الصريح.

وقد رأى فى الخلافة أن السلطان يستحيل فيها «... وحشًا سفاحًا وشيطانًا ماردًا إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته وتقويض كرسيه، وإنه لطبيعى فيه أن يكون عدُوًّا لدودًا لكل بحثٍ علمى يتخيل أنه قد يمس قواعد ملكه أو يريح من تلقائه ريح الخطر ولو كان بعيدًا، ومن هنا نشأ الضغط الملوكى على حرية العلم ومعاهد التعليم، ولاشك أن أخطرها كان علم السياسة، ولذلك كان حتمًا على الخلفاء أن يسدوا طريقه ومنافذه أمام الناس»، معلنًا كغيره أن الخلافة ليست فرضًا إسلاميًّا، ولم يأتِ بها بيان فى القرآن والسنَّة، فلماذا يستمسك بها الناس فى زماننا ويدعون إليها، إلا إذا كان لهم حنين إلى القهر والقتل والتعذيب، وإعادة سيرة النفى والإقصاء والحذف؟!، ويذكر الشيخ على عبدالرازق أن «كل ما جرى من أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة... إلخ، لا يدلُّ على شىءٍ أكثر ممَّا دلَّ عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعيّة عن حكومة قيصر»، كأنه يذكِّر بما جاء به ابن الأزهر أيضًا الإمام محمد عبده مفتى الديار الإسلامية فى كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، حيث ذكر «أنّ الحاكم الذى تختاره الأمة كالخليفة، يُمثِّل حاكمًا مدنيًّا من جميع الوجوه، سلطة الحاكم مدنية، السلطان فى الإسلام فردٌ تسرى عليه الأمور كافة التى تسرى على الآخرين، فإذا ارتكب خطأً فإنّه يجب أن يتعرّض للمُساءلة والحساب، وليس فى الإسلام سلطة دينيّة سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير…».

ومن أبرز ما جاء به- وهو حقيقة مؤكدة طبقًا لمتُون التاريخ العربى الإسلامى- لكن لا أحد يثير ذلك فيما يكتب، حيث يذكر على عبدالرازق أننا «لسنا نتردّد لحظة فى القطع بأنّ كثيرًا ممّا وسموه حرب المرتدّين فى الأيام الأولى من خلافة أبى بكر لم يكن حربًا دينيّة، وإنّما كان حربًا سياسيّة صرفة، حسبها العامّة دينًا، وما كانت كلّها للدين».

أن تصم مخالفيك بأنهم مرتدون لهو أمرٌ صعبٌ، يدل على ما بتنا فيه من فوضى، وتحكُّم المُتشدِّدين وتجَّار الدين والمشتغلين به فى مصائر المسلمين، والتأثير فى سائر الخلق، حيث سيطر المتزمِّتون على منابر الخطابة، وباتوا مُؤثِّرين وفاعلين فى المؤسسات الدينية الرسمية، حتى صار تحت كل حجر فى هذه البلاد مُتشدِّد مختف يظهر وقت اللزوم.

نحن أمام فقهٍ جامدٍ، يقدِّمه لنا معظم الفقهاء والمُشتغلين بالدين، يعتمد بشكل أساسى على الإكراه والنقل، ومن ثمَّ التلقين، لا اجتهاد فيه، ولا حتَّى محاولة لتقديم مواءمة بين صحيح الدين وبين التحديَّات، التى تواجه أبناء الأمة، خصوصًا وهى تقابل التطورات والإسهامات، التى تقدمها الأمم والحضارات الأخرى، فلا نريد للحضارة الإسلامية التى رفدت وأفادت وعلَّمت وأسهمت وأضافت أن تتذيَّل، بعدما كانت فى المقدمة، ومع الاجتهاد سيعود الافتتان مرةً ثانيةً بنصوص القرآن، وسحر بيانه، بحيث يُغرِى الكثيرين لأن يتعرَّفوا تاريخ هذه الأمة وديانتها بعيدًا عن القتل والسَّفك والذبح، وتقديم الحرام على الحلال، والتكفير على التفكير فى المشهد الدينى والثقافى والاجتماعى العام والخاص على حدٍّ سواء، حتى صارت الصورة سوداء، وليست قاتمة فقط، فى ظل تنامى الأصوليات، التى لا تدرك ما الأصلُ وما المتنُ فى الإسلام.

كما أن السلوك العام لـ«المشايخ» يجعل الجيل الجديد يخرُج من الدين، وليس فقط يلتزم بتعاليمه، إذ كيف له أن يقتنع بكلام شيخٍ جاء إلى درسٍ أو ندوةٍ أو محاورة أو محاضرة أو مناظرة، سيتكلم فيها، ضمن ما سيتكلم، عن العدل والتقوى والمساواة والزهد والفقر والفرار إلى الله، وهو يمتطى صهوة سيارة من نوع (هامر)، ومتزوج رسميًّا وعُرفيًّا من كثيراتٍ، ولديه مئات الآلاف من الملايين، وهو الذى تخرَّج فى الصحافة مثله مثل الآلاف من الخريجين، وهذا أنموذج واحدٌ من آلاف النماذج المؤثِّرة فى مشهدنا الدينى، فكيف- إذن- يقتنع جيلٌ متمرِّدٌ بطبيعته، لم يعتد الإذعان والتسليم بكلامٍ يصدُر عن مثل هؤلاء، حتى لو كانوا ينطقون عن الله ورسوله، أى بـ«القرآن والسنة الصحيحة»؟

ahmad_shahawy@hotmail.com