(1)
لما غرقت الفنانة الشهيرة في الترعة، تصاعدت الشكوك بشدة معتبرة أن موت أسمهان لم يكن مجرد حادث، بل جريمة قتل مدبرة، بعضهم اتهم أم كلثوم على خلفية المنافسة الفنية، وبعضهم اتهم السياسي البارز احمد حسنين، والملكة نازلي، وابنها الملك فاروق على خلفية صراعات الغرام والغيرة والعلاقات السرية، وبعضم اتهم أجهزة مخابرات دولية، على خلفية الصراع البريطاني الألماني في ذلك الوقت، وبعضهم...، وبعضم...، وبعضهم...، واستمرت الشكوك والاتهامات تتزايد مع السنوات، حتى تحول الحادث إلى لغز مغلق، لا يستطع أحد أن يؤكد بأي دليل الاتهامات التي يرددها بحماس دون دليل، ولكن على سبيل التخمين والتكهن، وفي أجواء الحادث أطلق أحد كبار المسؤولين في المخابرات البريطانية مصطلح «الموت الغامض» ليُذَكِّر الناس بأن التاريخ يتضمن الكثير من هذه الحوادث، في محاولة للتقليل من هوس المؤامرة الذي كان العالم يغرق فيه، بعد أن تحول الموت والخراب إلى فعل يومي نتيجة الحرب العالمية الثانية، التي كانت تقترب من نهايتها عندما خرجت النجمة من المشهد الواقعي، لتحضر بكثافة في أحاديث الناس وتعليقاتهم وتفسيراتهم، حتى تحول قتل أسمهان إلى لغز بحجم أسطورة تتجاور فيها الحقيقة مع الأكاذيب، ويتساوى فيها الواقع مع الخيال.
(2)
قبل أسمهان بقرون انشغل الناس بحالة اختفاء قسري، تحولت إلى لغز كبير أيضاً، لأن المختفي لم يكن شخصاً عادياً، بل كان الخليفة الفاطمي نفسه، الحاكم بأمر الله، وقبله بقرون أيضاً وقعت جريمة شنعاء، مازال العالم كله منشغلا بها حتى الآن، وهي مصير السيد المسيح: هل اختفى قسريا وصعد به الرب إلى السماء دون أن يموت؟، أم قُتل على الصليب فوق جبل الجلجلة في فلسطين؟، وهل قتله الرومان أم اليهود؟
(3)
قصة «الموت الغامض» مثيرة، ومحاطة بالشكوك والحيرة، والناس عادة ما تنقسم حولها، وتفرض تخميناتها كحقائق، لكن تلك التخمينات المتناقضة لا تنطلق من فراغ، وأحيانا تعبر عن أزمات واقعية جدا، أو تعكس جانبا من الدوافع المنطقية التي تكفي لتوجيه الاتهامات لأشخاص أو أنظمة، فالسادات قتل الليثي ناصف، وسعاد حسني قُتلت ولم تنتحر، وصفوت الشريف أحد أبرز المتهمين، بل هناك من تحدث عن موت عبدالناصر مسموماً، وليس جراء أزمة قلبية، ونهاية عبدالحكيم عامر لاتزال محل أخذ ورد، بين منتحر ومقتول، ولغز اختفاء الصحفي رضا هلال لا يزال في قبو المجهول، لكن الكلام لم يتوقف، والتكهنات تتسع وٍتتشعب في اتجاهات متنافرة، وكما في روايات أجاثا كريستي قد نظل نتهم كثيرون من اصحاب المصلحة في التخلص من سيد درويش وأسمهان ونيازي مصطفى وعمر خورشيد، والحاكم، وجون كيندي، وناصر وعامر وسعاد حسني ونادين ابنة ليلى غفران، ومارلين مونرو ورضا هلال ومحمد الجندي و.................. جوليو ريجيني!
(4)
مثل هذه الجرائم في التاريخ علمتني أن أتابع باهتمام كل القضايا المفتوحة، لكنني لا أستسلم بسهولة لأي رواية مرسلة، فالإجابات الحاسمة وحدها تستطيع حل مثل هذه الألغاز، أما التخمينات، والتلفيقات، والسيناريوهات الضعيفة، فلا يمكنها أن تطفئ نيران الأسئلة المشتعلة، وهذا لا يعني أن نتعصب بلا أدلة في توجيه الاتهام لأي جهة لمجرد أننا نفتقد الثقة فيها، أو لمجرد تاريخها الإجرامي، فالقانون له مقتضياته، وتوجيه الاتهامات له أصول، وإثباتها له طريق وطريقة، وبغير الأدلة يصبح من الخطر أن نتهم هذا الشخص أو تلك الجهة، ويصبح من الخطر أيضا أن يلفق هذا الشخص أو تلك الجهة سيناريو غير مقنع لمجرد إغلاق الملف، فتقييد الجريمة ضد مجهول أفضل من حلها بحلول مزيفة.
(5)
هذا المقال لا يلمح إلى إدانة أجهزة الأمن المصرية في جريمة تعذيب وقتل ريجيني، ولا يسعى لتبرئتها أيضا، وإن كنت (من منطلق التخمين والأمنيات) لا أصدق أن الأمن المصري مهما تدنى أداءه يمكن أن يكون قد تورط في مثل هذه الجريمة، لأنه في رأيي إذا كان قد تورط في اعتقال وتعذيب ريجيني، ثم مات خطأ أثناء التعذيب، فلا أظن أن طريقة التخلص من الجثة، تعبر عن تفكير أجهزة احترافية، تدرك خطورة التبعات الجنائية والسياسية لمثل هذا الحادث، ومع ذلك تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، كما تعودنا في أفلام الأكشن والروايات البوليسية، وحتى تظهر الحقيقة مقنعة وحاسمة (إذا ظهرت) لن أتورط في إعلان تخميناتي، ولن أستبق بتوجيه اتهام إلى أي جهة أو شخص (وفي المقدمة الأجهزة الرسمية في بلدي) لأن مصر كلها ستدفع غرامة مثل هذه الخطايا إذا ثبتت في حقنا رسمياً، وهذا لا يدعو أبداً إلى «فبركة» الحل بغير الحقيقة، لكنه لا يدعو أيضا إلى استباق النتائج وتعجل المصيبة.
(6)
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.